16 سبتمبر 2025
تسجيليقول ميكافيللي: "لو خيرت بين أن تكون مهيباً ومكروهاً أو أن تكون محتقراً محبوباً، فالأسلم أن تختار المهابة بدلاً من المحبة، فالناس لا يتورعون أن يؤذوا المحبوب، ولكنهم لا يقدمون على إيذاء المهيب، فالحب عاطفة لا تلبث أن تخمد إذا نالت مرامها، أما المهابة فيسندها خوف العقوبة". توقفت برهة عند هذه السطور لميكافيللي رغم أنه قد قالها منذ قرون خلت إلا أن ماهيتها ما زالت تنعكس على المجتمعات المختلفة في صور متعددة، فهل يقدر الناس فعلاً من يحبون؟. إن الازدواج المتوغل في تشكيل كياناتنا قد أثر وبشكل مباشر على مشاعرنا وعلاقاتنا وتفاعلاتنا في محيط المجتمع، فاختلت موازين الأحكام التي ركعت لهيمنة الازدواجية، حيث تجد معظم الآيات تحت أخطبوط الازدواجية تُقرأ وتفهم وتعالج بالمقلوب، فتجد أكثر الناس يحبون طيب الخلق لكنهم لا يحترمونه ولا يكترثون لأمره، فهو لا يملك سوى قلبه الطيب!، بينما يكنون كل الاحترام وجل التقدير لصاحب المال والجاه والنفوذ فهم يحبونه بأفواههم ويزدرونه بقلوبهم!، والقوي من وجهة نظر الازدواجية هو القوي بماله وغناه وعزه، فهو يملك أكثر الأسلحة فتكاً وتدميراً وإمتاعاً أيضاً، وإن كان سفيهاً أو جباناً، فهو يستحق الوقار والتكريم، أما الضعيف وإن ضخمت عضلاته، واشتد بأسه وأظهر بسالة وشجاعة، إلا أنه مهزوم إذ قل ما في يده، فلا هيبة له ولا خشية. كما يروق للناس مجالسة صاحب النكتة والظل الخفيف، ولكنهم لا يصونون عشرته ولا يكرمون منزله، حتى إننا نجد معظم الناس وقد شحّت بسمتهم وتوارت بشاشتهم لئلا ينظر اليهم بشيء من الهنة والخفة. والناجح المميز هو ذلك المشهور خاوي العقل أجوف الفكر الذي اكتسب نفوذه وتأثيره ومجده الواهي من خلال تصنعه وتملقه وتقديم مصلحته على جميع المبادئ والقيم، فينال الإعجاب والتعظيم والتفخيم، وما أكثرهم في زمننا هذا وهم فيه غثاء كغثاء السيل. بينما الصراحة في عرفنا أصبحت قباحة والصدق أصبح نكبة على من نطق به، والأولى أن يُبتر اللسان قبل أن يصير صاحبه في خبر كان، فمن يحاول أن يصدق الآخرين أو يحدثهم بشفافية بعيدة عن النفاق والرياء تكالب عليه القوم وأشعروه بأنه قد اقترف جرماً عظيماً لا يغتفر ثم لا يلبث إلا أن يجد نفسه وحيداً مهجوراً بعد أن ابتعدوا عنه وأبعدوه من مجالسهم وتجمعاتهم. وتشتد الازدواجية عسراً حين تتمظهر في الأوامر والتوجيهات التي يتلقاها الأبناء من والديهم، إذ تختلف باختلاف معايير كل منهما في المواقف ذاتها، وبالتالي تجد الأبناء وقد أصيبوا بالاضطراب والاختلال جراء عدم الثبات والاستقرار على نهج واضح يتبعونه ويحتذون به. ومن مظاهر الاعتلال والنظرة الازدواجية التي لم تبق ولم تذر فوطأت حتى المشاعر غيرة بعض الرجال على زوجاتهم دون أخواته وبناته وهنا نوع من التعصب غير المبرر فما ترتضيه لأخواتك وبناتك يفترض وبالمنطق أن تسمح به لزوجتك والعكس صحيح، مع أن العقل يميل إلى أن غيرة الرجل على أخواته وبناته أولى من باب أن الزوجة قد تذهب في يوم من الأيام وتأتي غيرها وهذا لا يجيز بالطبع عدم الغيرة عليها ولكن من باب التأكيد على أن غيرة الرجل على أخواته واجبة ومتساوية لغيرته على زوجته، فعلاقة الأخوة والبنوة علاقة ثابتة لا يمكن أن ننكرها تحت أي ظرف من الظروف. وفي الجانب الآخر تجد بعض المنظرين والوعاظ يتلحفون ازدواجية خاوية، حيث تلج بهم حياتنا أينما أقبلنا وأدبرنا فمعظم من حولنا بقدرة قادر أصبح واعظاً حتى أنك لتشعر أنهم متربصون بك في خلوتك!، إنهم ممتازون في توجيهك ووعظك وزجرك وإذا خلوا إلى أنفسهم أنفوا ما جاءوا به وسارعوا إلى نهج وشرع غير ما يدعون إليه بل وقد يقلون شأناً عنك ثقافة وفكراً، فهم مثاليون في أفكارهم يتشدقون بما لا يعملون!، فيا قباحة المنطق وصفاقة الضمير. ولقد وصل بنا هذا الشعور أوج قمته واستفحاله، فبتنا نشعر أننا نتلون بتلون الأماكن والناس الذين نعاشرهم فعندما نذهب لمن نستشعر ورعهم وتقواهم، نضع قناع الوقار والتدين، وعندما نقابل المنفتح نضع قناع الحرية والعصرية والحداثة، وقناع آخر للعمل وغيره للأصدقاء وتجمعات الأنس والطرب، وأخيراً نعود لبيوتنا نريد أن نزيح جميع هذه الأقنعة ولكن هيهات فهناك القناع الأخير قناع خاص للزوجة والأسرة والأولاد، وهكذا نمضي ندور في الدنيا ونجمع ما يمكن من أقنعة تعيننا على أن نفهم أنفسنا فلا نجدنا تحت أي من الأقنعة!. تلك هي الازدواجية المزعزعة والمضللة والمربكة للعقل والمشاعر التي تخالف المنطق الإنساني، والتي تتوارثها السنون وتتعاقب عليها الأجيال، فتتركها أسيرة للصراعات المحمومة والتصورات الشائهة للقيم والمبادئ والأخلاق ولنظام اجتماعي تتلاعب به الأهواء والشهوات وتتقاذفه الرغبات والنزوات، فيعربد القلق في النفوس وتثور الحيرة والشقوة في القلوب. وها نحن اليوم وقد أغفلنا إجلال الصادقين الأمناء بيننا فندر وجود من يصدقنا وينال ثقتنا، ومهما تباينت الدراسات إلا أني أضع بين يدي القارئ جملة من التساؤلات: فهل يمكن القول إن معايير البشر وظواهرهم النفسية يمكن أن تكون ثابتة على مر السنين والعصور وبالرجوع إلى الحقبة الزمنية التي قال فيها ميكافيللي هذه الكلمات مهما اختلفت المتغيرات؟! رغم أن البشر متقلبون ومتغيرون بطبيعتهم، ولكن هل يمكن القول إن مقاييسهم ثابتة لا تتغير مهما عفا عليها الزمن وأغبر؟، وهل الدوافع المختلفة للنفس البشرية هي التي تتحكم في عمق ازدواجيتها؟، وهل يمكن للفرد أن يتحكم في دوافعه النزقة؟ وإلى متى سنسمح لوبال الازدواجية أن يسيطر على حياتنا ومستقبل أبنائنا؟، وإذ افترضنا جدلاً أن جيل السبعينيات هو القدوة الآن فإلى أين يقود المجتمع بهذه العقلية؟، وكيف يمكن أن يساهم في انعتاق المجتمع من ربقة هذه الآفة؟. [email protected]