14 سبتمبر 2025
تسجيلشهد الأسبوع الماضي وقائع حملت دلالات على حالة الوضع السياسي في مصر، والذي يمكن وصفه بالصخرة المتدحرجة إلى نهايات مرسومة ومقدرة سلفاً. أعلنت النتيجة النهائية لانتخابات الجولة الأولى لرئيس الجمهورية وتقرر أن تكون انتخابات الإعادة بين كل من محمد مرسي مرشح الإخوان المسلمين (5.754.952 صوت) وأحمد شفيق آخر رئيس وزراء في النظام السابق (5.505.127 صوت). جدد هذا الإعلان موجة من الرفض لأحمد شفيق على أساس عدم جواز ترشحه طبقا لقانون ممارسة الحقوق السياسية والذي يمنع من تولى هذا المنصب بالإضافة لمناصب أخرى من الترشح، وتجددت بالتبعية الاحتجاجات على أداء اللجنة العليا للانتخابات الرئاسية. ظهرت مطالبات بمقاطعة الانتخابات أو إبطال الأصوات، لأن موجة الرفض لكلا المرشحين عالية. انطلقت حملة مرشح الإخوان داعية لحماية الثورة وتحقيق أهدافها، في حين أن المأخذ الرئيسي على الإخوان أنهم تقاعسوا عن الانضمام للثورة في بدايتها وصرح عصام العريان على إحدى القنوات الفضائية يوم 25 يناير "الأمن يتهم الإخوان بأنهم وراء المظاهرات، والأمن يعرف من هم هناك"، وتتوالى بعد ذلك مواقف الإخوان طوال الفترة الانتقالية منذ اللقاء مع عمر سليمان، وكانت في مجموعها ذاتية لصالح مكاسب تنظيم الإخوان ولا تبني مواقف لتحقيق غايات الثورة. تعجل الإخوان المكاسب السياسية المحدودة لصالحهم على حساب اتساع أفق أهداف الثورة وحاجاتها. واتخذت موقفا بالصمت وبالإدانة تجاه المواجهات التي دارت خلال الفترة الانتقالية وكان صمتهم مأخذا آخر عليهم، الأمر الذي أدخلهم إلى جانب القوى المضادة للثورة، وأنهم يصنعون من أنفسهم نظاما استبداديا جديدا. وتعرضت المقار الانتخابية لأحمد شفيق إلى الهجوم والحرق من متظاهرين يرفضون وجوده كمرشح يمثل النظام السابق، ويجب تطبيق العزل السياسي عليه. وشن أحمد شفيق هجوما ضاريا على الإخوان معددا اتفاقاتهم مع النظام السابق ومستخدما نغمة أنهم انقضوا على الثورة لسرقتها ووعد باستعادة الثورة للشعب من سارقيها. وأعلن انتهاء العمل بقانون الطوارئ يوم الخميس 31 مايو. وصدرت الأحكام في قضية محاكمة مبارك ونجليه ووزير داخليته ومساعديه الست يوم السبت 2 يونيو، وقضت المحكمة بالسجن المؤبد لكل من مبارك والعادلي وتبرئة نجلي مبارك لانقضاء أكثر من عشر سنوات على واقعة قبول هدية من حسين سالم (خمس فيلات)، وتبرئة مساعدي العادلي لعدم كفاية الأدلة. ودفعت الأحكام التي لم تشفِ صدور المواطنين وأهالي الشهداء للتظاهر اعتراضا عليها وأيضا المطالبة بتطبيق قانون العزل على أحمد شفيق لتتطور المطالب إلى تشكيل مجلس رئاسي يدير البلاد والعودة إلى مطلب إقرار الدستور قبل إجراء انتخابات الرئاسة. وانتشر بين المتظاهرين أن الثورة عادت إلى يوم 11 فبراير 2011 وأنه وجب استرداد الثورة ورفعوا هتاف "المرة دي بجد... ومش حنسيبها لحد"، بما يعني جدية الخروج على ما يجري. وحدد العديد من التيارات والمستقلين تشكيل المجلس الرئاسي من محمد البرادعي ومحمد مرسي وحمدين صباحي وعبد المنعم أبو الفتوح وخالد علي كأسماء مقترحة وبدا الأمر أنهم يحاولون الإمساك بقبضة من الماء. ووافق الإخوان على تشكيل مجلس رئاسي، ولكن بعد انتهاء مرحلة الإعادة، وبالتالي أصبح القبول مشروطا بنجاح مرشحهم. إعلان الرفض لكل من أحمد شفيق ومحمد مرسي لا يغير من واقع نتائج التصويت في المرحلة الأولى. في السياسة ليس هناك رغبات وتنازلات تتم وتتحقق بعيدا عن ميزان القوى بين الأطراف في الواقع، وتوافر آليات التعبير عن ميزان القوى. ومجرد الأخذ بنتائج الصناديق ليس دلالة على وجود آلية للتعبير عنها لتغيير الواقع الذي نتج عن هذه النتائج. تغيير هذا الواقع يعني الانقلاب على قواعد لعبة اشترك الجميع في الموافقة عليها، رغم أنها مثلت التفافا على الشرعية الثورية قبل أن تستكمل الثورة تغيير النظام بإزالة أركان الفساد، ووضع دستور هو عقد اجتماعي جديد لمصر بعد الثورة. فاجأت الأرقام كافة الأطراف، ولكن الأرقام المجردة لا تعني بالضرورة أوزانا نسبية في الواقع، فلا نملك مؤشرات تؤكد أن التصويت كان على إطلاقه ترجيحا لموقف أو قبولا لبرنامج بقدر ما أنه كان تصويتا إقصائيا وهو عامل رئيس في تلك النتائج، والخطأ الذي يمكن الوقوع فيه هو الركون إلى الأرقام دون ربطها بالواقع وجودا وعدما. والوجود في الواقع يجب فرضه ولا يتحقق بالنوايا ولا يمنحه طرف لآخر لمجرد الطلب. وفرض الوجود السياسي يتحقق بزخم الاحتشاد الجماهيري المنظم والمستمر وتكون قيمته بمدى القدرة على التأثير والاستجابة للاستدعاء. والسؤال المعبر عن الأزمة هو كيف تريدون أن ينبت العشب على صخرة متدحرجة؟، هذا وهم، لأن طبيعة الأشياء تقضي بأن الصخرة المتدحرجة تقتل أي نبت يجد لنفسه سبيلا للوجود على سطح تلك الصخرة فضلا عن مدى إمكانية أن ينبت العشب على الصخر، أو أن يلتصق بها نبات منزوع من تربته ولا جذور، ليسقط عن سطح الصخرة جراء حركتها. الواقع الذي نواجهه صنعه تحالف المجلس العسكري والإخوان طوال الفترة الانتقالية ولن يتراجع عنه أي منهما طواعية. أغفلت باقي الموجودات السياسية، أحزاب أو أشخاص أو ائتلافات، ثلاثة أمور، عن عمد أو عن غياب للقدر ورغبة للأخذ بالأسهل في حدود قدرتها دون محاولة الاجتهاد لزياد مقدار القدرة كما ونوعا. أغفلوا مقترح الأستاذ هيكل والذي عرضه في أكتوبر 2009 بتشكيل مجلس أمناء الدستور، ثلاثون شهرا مضت منذ ذلك التاريخ دون أن تصدر إشارة أو تعليق بالاستيعاب والقبول أو ببديل آخر أكثر موضوعية. وأسس هيكل لاقتراحه بأن "الحقيقة أننا في حاجة إلى بناء دولة ــ وليس مجرد حكومة أو سلطة". "ونحن في حاجة إلى دستور يكون عقدا اجتماعيا قادرا على أن يصون كل ما هو أصيل في هذا البلد، ويفتح الطريق إلى كل ما هو مطلوب لمستقبله". "أن يكون دوره انتقاليا لثلاث سنوات، يقوم بعدة مهام ضرورية لإعادة قاطرة الوطن إلى قضبانها السليمة بعد قضبان تؤدي إلى لا مكان، كما هو الحال الآن". حدد هدف البناء السياسي، والمهام المترتبة عليه والفترة الزمنية والآلية التي تنفذه. أليس هذا تصورا متكاملا دار الجميع من حوله وأغفلوه، أليس صالحا إلى اللحظة بعد ثلاثين شهرا؟. وأغفلوا دورا ورؤى تصدى لها الدكتور محمد البرادعي، ورغم أن مواكب الحجيج إلى منزله من النخب المرصودة على شاشات الإعلام لم تنقطع، إلا أنها لم تنجح في التوافق مع الرجل. اتخذ الرجل مواقف متوالية في مواجهة النظام وداعية إلى التحرك الشعبي ومتوائمة مع ما يدعو إليه من رؤية ترتكن بالأساس على العدالة الاجتماعية. وأعلن البرادعي انسحابه المبكر من الترشح لمنصب الرئيس، لأن المقدمات لا تنبئ بنتائج يمكن أن تحقق انتخابات حرة. وأظن ـ والإثم في بعض الظن فقط وليس كله ــ أنهم لم يروا في إعلان البرادعي الانسحاب ما كان يعنيه الرجل، ولكنهم رأوا أن عقبة في الطريق إلى كرسي الرئاسة قد زالت، والآن يتحدثون عن استيعاب للدروس، وهم أبعد عن هذا. أغفلوا رؤية وأغفلوا رجلا شريكا وله مواقف يمكن الاقتداء بها، فاكتفوا بذاتهم دون أن يروا الموضوع. وسقطتهم الأكبر هي إغفالهم لعلاقة موضوعية مع الشباب، لا تكتفي بمجرد الشكل والقول، ولكنها عجزت عن تجاوز الشكل إلى التفاعل والالتقاء التنظيمي، فهذه مهام تحتاج لعرق لا يتناسب وما يرونه لأنفسهم الآن، وهو موقف يعتبر استطرادا لعزلة هذه الموجودات السياسية عن القوى الاجتماعية في المجتمع. انعدام التراكم للأفكار والمقترحات والتفاعل معها، والاغتيال المعنوي للأشخاص وإزاحتها، والانفصال عن حركة الشباب ومطالب القوى الاجتماعية، أفضى إلى فوضى سياسية عارمة شملت الرؤى والمهام والآليات، وأحالت الحركة السياسية إلى ردود أفعال يتولاها رجال القانون، الذين ملأوا الدنيا صياحا، ونسي الجميع أن حديث القانون يتلون حديث السياسة، والاتفاق على الرؤية السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمع تسبق الدستور، واعتبروا أن كل الأشياء مؤجلة حتى يحتلوا عرش الرئيس، اختزلوا الثورة، فساوى الشعب بينهم جميعا ولم يغلب أحدهم على الآخر. العلاقة بين كافة الأطراف تتسم الآن بالتنافر وانعدام الثقة. وليس أدل على ذلك أنه ليلة السبت في ميدان التحرير كان عبور أي من عناصر الإخوان المعروفين يستدعي فورا مظاهرة من حوله صاخبة تهتف "بيع.. بيع.. بيع يا بديع"، وهو ما استدعي حشدا إخوانيا قارب الخمسمائة فرد بعد ظهر الأحد ليحملوا واحدا من عناصرهم ذا العلاقة الوطيدة بالمجلس العسكري والداخلية وأمين صندوق العمرة وأموال المصابين الواردة من الخارج، يحملوه على الأكتاف ليهتف "يسقط حكم العسكر" والحقيقة أن الضمير العام للمتظاهرين يهتف "لا لحكم النظام السابق والإخوان" شريكا المرحلة الانتقالية. الأرض المصرية تضربها ريح سوداء، والأفعال المتبادلة تزيد احتمال تحول الريح إلى إعصار مدمر. الطريق ملئ بألغام قابلة للانفجار ولا يحاول أحد أن ينزع فتيل الانفجار بالعودة إلى صواب العقل والفعل، هناك مواجهة حول اللجنة التأسيسية لوضع الدستور، وعناد الأطراف مع الحقيقة والأعراف بلغ مداه، وصارت ورقة للمناورات السياسية. وهناك حكم المحكمة الدستورية بشأن قانون انتخابات مجلس الشعب، والذي يمكن أن يؤدي إلى حل المجلس، هو ورقة ضغط بين أطراف الصراع على السلطة، يلوحون به ولا يستخدمونه. وهناك حكم المحكمة الدستورية بشأن قانون ممارسة الحقوق السياسية، وهو يهدد نتائج انتخابات الرئاسة، ويهدد شرعية الرئيس القادم، وهناك بلاغات أمام النيابة بوقائع منسوبة إلى أحمد شفيق، مازالت دون التحقيق، والتعامل معها ببطء يوحي أن التباطؤ موقف من جهة التحقيق. أيا كان الرئيس القادم، وسط هذه الأجواء والمعطيات ستكون شرعيته محل طعن قانوني أو سياسي، وستكون هذه الطعون مبررا للخروج عليه وفي مواجهته. هناك ضرورات موضوعية لاستكمال الثورة، وما زالت هذه الضرورات قائمة، فلا خشية على مستقبل حركة التغيير في مصر، لكن الطريق لن يكون سهلا أو آمنا، ولا تبدو البدائل فيه واضحة، أو مجدية. كل شيء غائم، والأطراف لم توفر ذاتيا قدرة تدفع بها لقيادة المهام، وتتزايد الأطراف تباعدا فيما بينها وتنافرا وتربصا، فهل تستطيع كافة الموجودات السياسية في مصر أن تحل أزماتها الذاتية وإلا تصر على تصديرها إلى الوطن، فهم جميعهم لن تسفك لهم دماء، ولكن ستسيل دماء الشباب أصحاب المصلحة في المستقبل. صخرة الموجودات السياسية المتاحة في مصر الآن متدحرجة ولن ينبت عليها عشب، بل ستصطدم بسلسلة جبال العجز المتراكمة، وعندما تتحطم هل ستكون مصر قد انبتت للثورة قيادة حقيقية؟.