29 أكتوبر 2025
تسجيلالناس قسمان: قسم يعيش دهره وينسى أثره، وقسم يعيش عمرا طال أو قصر؛ لكنه وإن مات فإن أعماله تبقي ذكره، ويظل ترداد اسمه بين العلماء منتشرا، كلا الرجلين سواء من الناحية الخِلقية: رأس وجسد ويد ومظاهر حسية، وربما يشتركان في الذكاء، لكن أحدهما حدد هدفه وبذل في سبيل ذلك الجهد اللازم، والآخر تواكل وضيع وقته فلما مات اندثر اسمه حتى ربما ينساه أهله بعد عقود ليست قليلة. اليوم معنا شعبة بن الحجاج بن الورد (85 هـ-160 هـ) هو إذن من الرعيل الأول، لكنه شمس الدنيا وعافية البدن، وما من مشتغل بالحديث إلا وهو يذكر له مواقف خلدت في التاريخ ذكره، ونحتت في ذاكرة المحدثين والعلماء اسمه. ولسائل أن يسأل عن السر وراء ذلك، ونحن هنا نوقفك أمام حديث واحد حققه هذا العالم من بين آلاف الحديث لتدرك الفارق بين أهل الجد وأهل الهزر. ذكر ابن حبان رحمه الله في مقدمة كتابه المجروحين، عن نصر بن حماد قال: كنا بدار شعبة نتذاكر السنة، فقلت: حدثني إسرائيل عن أبي إسحاق عن عبدالله بن عطاء عن عقبة بن عامر الجهني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من توضأ ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فتحت له أبواب الجنة الثمانية)، قال: فخرج شعبة فلطمني ودخل الدار، وكان معه عبدالله بن إدريس، قال: فخرج - أي: بعد ذلك - فوجدني قاعداً أبكي، فقال: هو بعد يبكي، فقال له: عبدالله بن إدريس إنك لطمت الرجل، فقال: إنه مجنون إنه لا يدري ما يحدث، إني سألت أبا إسحاق عن هذا الحديث، سمعته من عبدالله بن عطاء فغضب ولم يجب، غضب؛ لأن أبا إسحاق السبيعي كان يدلس (أي يسقط الراوي شيخه الضعيف أو الصغير فيعلو بسنده وهذا لون من التدليس فـأبو إسحاق السبيعي كان شعبة لا يأخذ من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع) لذلك سأله: سمعت هذا الحديث من عبدالله بن عطاء، فغضب. وأَبى أن يجيب، فقال مصعب بن كدام وكان جالساً مع أبي إسحاق السبيعي: يا شعبة! إن عبدالله بن عطاء حيٌ بمكة. قال شعبة: فخرجت من سنتي إلى الحج ما أريد إلا الحديث (شعبة وقتها كان في البصرة). قال: فذهبت، فدخلت على عبدالله بن عطاء فإذا رجلٌ شاب، قلت له: حديث الوضوء حديث عقبة بن عامر قال: نعم. قلتُ له: سمعته من عقبة بن عامر، قال: لا. إنما حدثنيه سعد بن إبراهيم -وهو مدني- قال شعبة: فذهبت إلى مالك فسألته: حج سعد بن إبراهيم هذا العام؟ قال: ما حج العام! قال: فقضيت نسكي وانحدرت إلى المدينة، فدخلت على سعد بن إبراهيم، فقلت له: حديث الوضوء حديث عقبة بن عامر، قال: نعم. فقلت سمعته منه؟ قال: لا. إنما حدثنيه: زياد بن مخراق -وهو بصري- قال: من عندكم خرج، حدثني زياد بن مخراق قال شعبة: حديث مرة بصري، ومرة مدني، ومرة مكي، دمر عليه لا أصل له.قال: فانحدرت إلى زياد بن مخراق وأنا كثير الشعر وسخ الثياب، فقلت: حديث الوضوء عن عقبة بن عامر، قال: نعم، فقلت: سمعته من عقبة بن عامر؟ فقال لي: إنه ليس من حاجتك! أي: أنه ضعيف، فقال له شعبة فما بد؟ قال: فلا أحدثك حتى تذهب إلى الحمام فتغتسل، فتغسل ثيابك، ثم تأتيني، قال: فاغتسلت وغسلت ثيابي وجئته، قلت: حديث الوضوء، قال: نعم. قلت: سمعته من عقبة بن عامر؟ قال: لا. حدثنيه شهر بن حوشب، فقلت: شهر عن من؟ فقلت: عن أبي ريحانة عن عقبة به، فقال شعبة: حديث صعد ثم نزل دمر عليه لا أصل له، والله لو صح هذا الحديث لكان أحب إلى من أهلي ومالي. فانظر كم قضى شعبة في تحقيق هذا الحديث من الجهد والبذل، وكم ضيَّع شبابنا أوقاتهم فيما يضر ولا ينفع، وفي الختام الحديث صحيح ولكن من جهة أخرى، وفق الله الجميع لمرضاته.