20 سبتمبر 2025
تسجيلحفلت الساحة المصرية بعد يناير 2011 بمسميات وشخوص وجماعات تبدو وكأن علاقتها مع مصر تتم عبر مجال افتراضي، أقدام غير ثابتة فوق الأرض، هائمة، ولكنها تطلق من الألفاظ ما يصعب على العقل تمريره. تتبدل الألوان بسرعة تفوق سرعة الحرباء، ولا تستطيع أن تقطع باليقين اتهاما، لأن حياة الشعوب لا تصنع، ولا تدار الثورات، بتوزيع الاتهامات، ولكن الثورات فعل وعمل وإرادة، وقبل كل هذا وعي ورؤية وإدراك. قال أبو تمام "السَّيْفُ أَصْدَقُ أنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ" فاصلا بالسيف بين "الجدِّ واللَّعبِ"، والفارق يبين بين الجد واللعب عندما تصبح حياة الإنسان والشعب والأوطان على محك الخيارات، قد يملك الإنسان لنفسه قبول المهانة مبررا ذلك بأي مبرر يستر به عجزه، ولكن الإنسان لا يملك أن يقبل مهانة شعب أو وطن بخيارات قاصرة، أو عجز عن الرؤية، أو هيام بالذات وأنها هي الحقيقة والوجود. كذلك الكيانات السياسية والحزبية وأي جماعة مهما علا شأنها، أو ذاع لها صيت أو امتلكت لنفسها قوة دون مجموع الشعب، شأنها شأن الأشخاص، فالأوطان ليست أحزابا ولا يجوز استبدال جماعة بوطن. ما يدور في مصر الآن من تخبط واستحواذ وسحل وقتل، هو نتائج لكل الفترة الماضية، ولم تبلغ الأزمة ذروتها بعد، فمازالت القوى متباينة في القدرات، وتبلغ الأزمة ذروتها عندما يحدث توازن القوى، عند ذلك فقط يدرك الجميع أنه بقدر ما يستطيع الفعل بخصم أمامه، قد يكون رد الفعل أكبر من قدرته على الاستيعاب والتحمل، لحظة التوازن هذه هي لحظة الحوار. الدم والقتل والسحل في مصر يؤكد أن السلطة الحالية أشد جرما من سلطة سبقتها، ولا يردعها رادع عن القتل وازدواجية المعايير. والركون إلى أن هذه السلطة جاءت عبر صناديق التصويت هو جريمة في حد ذاته، لأنه إهدار لإرادة التغيير لدي الشعب، وهي في الوقت ذاته دلالة على عجز ما يسمى بالنخبة أو الأحزاب والجبهات عن القراءة الصحيحة لما جرى في مصر وما يوجبه من مهام. فعندما تكون الصناديق طريقا لقتل شباب وطن، تصبح هذه الصناديق نعوشا، وليست تعبيرا عن إرادة. لم ننس حسابات القوى المضادة للثورة مبكرا، وأنها تضم المجلس العسكري والإخوان والداخلية والسلفيين والطبقة المستفيدة من النظام السابق، وحينها كنا نرى أن مصر صارت ساحة للعبة الأمم وهو تعبير مجازي عن وجود وعمليات لأجهزة استخباراتية خارجية ومصالح تعبر عن نفسها فوق أرض مصر تملك المال والحصار الاقتصادي وتزكية الانقسام والتهديد للأمن القومي بل وجندت قوى تحت رايات إسلامية وأقامت لها معسكرات التجهيز والإعداد وسهلت لها الدخول لمصر، واختارت لها سيناء مرتعا لإقامة الإمارة الإسلامية. عندما تم دعوة الناخبين لاختيار مجلس نيابي على قانون يفتح الباب على مصراعيه لكيانات هي امتداد طبيعي للنظام السابق، كان الرأي يومها، أن القوى المضادة للثورة تستحوذ على سلطة التشريع، ولكن الصرخات لم تجد من يسمعها، كما حال الجمعية التأسيسية للدستور وانتخابات الرئاسة واستفتاء الدستور. كان ذلك كله حسابات القوى المضادة للثورة، وكان من الصعب حساب قوى الثورة، ومدى علاقاتها بالقوى الاجتماعية وكانت حركة الثورة واستمرارها كما العملية الانتحارية، وكان المقابل لها عنف مستمر سواء من الجيش أو الداخلية أو ميليشيات التنظيمات الإسلامية، وظهر تعبير "الطرف الثالث" في الاشتباكات، ولم يكشف عنه حتى الآن، وإن كان الرأي العام أجمع على أنهم ميليشيات الإخوان والتنظيمات الإسلامية التي سمحت لنفسها بممارسة العنف. ولم تكتف سلطة الإخوان بما قدمه لها المجلس العسكري والإدارة الأمريكية سواء من خيارات إجرائية أو تمويل أمريكي ناقشة الكونجرس الأمريكي مؤخرا وهو تمويل يوازي المعونة الأمريكية لمصر، ولكنها سعت إلى السيطرة على الأزهر والأجهزة السيادية ووزارة الداخلية والإعلام والقضاء ومنصب النائب العام، وحاصرت سواء بالإعلانات الدستورية أو بالحصار البشري المحكمة الدستورية لتفرض بالعنف السياسي والسلطوي موازيا للعنف المسلح. وتواجه الثورة أزمة التوصيفات، فبديلا عن قوى الثورة والقوى المعادية لها، جرى زرع توصيف السلطة والمعارضة، وكأن حركة الثورة وصراعها في مواجهة تحديات التغيير وبناء النظام الجديد، صارت صراع سلطة. الجميع لهم نصيب من الاتهام بالتقصير عن مواكبة الاحتياج الوطني والعجز عن امتلاك رؤية تفرز بين ما يجب للثورة أو ما هو انسياق خلف خيارات سياسية هي انحراف عن تحديات الثورة، ولكن المفاجأة كانت في ثلاث وقائع، تمثلت في بيان صادر عن مجلس الدفاع الوطني، وخطاب لمرسي أعلن فيه الطوارئ وحظر التجول بمنطقة القناة، ووثيقة نبذ العنف الصادرة عن الأزهر. كان بيان مجلس الدفاع الوطني غريبا في مقدمته ومضمونه وصدوره من حيث اللغة والمضمون ينم عن تفكك وليس عن وحدة. يبدأ البيان بفقرة، (يعرب المجلس عن بالغ "الأسى والأسف" لما وقع من ضحايا بين شهداء ومصابين ويتقدم بخالص "التعازي" لأسر الشهداء و"الدعوات" للمصابين بالشفاء)؛ أسى وأسف وتعازي ودعوات، ولم يعلن المجلس موقفه من تحقيق أو موقفه من أعمال عنف منظم سابق، وجار. ويكمل (وفي إطار ما تشهده البلاد من أحداث عنف "تسيء" إلى وجه الثورة، و"تهدد" أمن مصر القومي، قام المجلس باستقراء دقيق وتحليل لكافة المشاهد السياسية والأمنية وإعلاءً لسيادة القانون بما يحفظ هيبة الدولة). (يؤكد المجلس دعمه الكامل لجهود رجال الشرطة في ضبط الأمن). (يؤكد المجلس أن القوات المسلحة المصرية ملك للشعب المصري العظيم. وتقف على مسافة واحدة من الجميع ولا تتدخل في العملية السياسية إلا أنها في الوقت نفسه تدرك واجبها الوطني وحقوق شعبها عليها في تأمين "منشآته الحيوية"، وتحرص على تحقيق الشعب لطموحاته وآماله ومبادئ ثورته العظيمة). هذا بيان يفتح الباب على مصراعيه لتأويل حول العقيدة الحاكمة لمجلس الدفاع الوطني، هدفه منشآت وأجهزة ووعيد وحياد، وشعب مستهدف بكل الإجراءات. ويرتكز مرسي على أحد نصوص البيان ذاته، (يحفظ المنشآت والأهداف الحيوية للدولة، بما في ذلك إمكانية حظر التجول أو إعلان حالة الطوارئ بالمناطق التي تشهد اضطرابات أو أحداث عنف تؤثر على أمن وسلامة البلاد(، ليعلن الطوارئ في مدن القناة وحظر التجول بعد مقتل 58 مواطنا، ويهدد مرسي أن لديه الأكثر من ذلك، وينال مرسي حظه من أهالي المدن القناة وتبدأ الحياة والمظاهرات من لحظة بدء حظر التجول، وتحول العداء إلى عداء لمرسي وجماعته. ويعود شيخ الأزهر من منفاه الاختياري في بلدته حيث ذهب احتجاجا على موقف نشرته الصحف المصرية، أن الحكومة رفضت تعيين أسماء اقترحها واستبدلتها بأسماء من الإخوان، فغضب الرجل وغاب عن الاحتفال بالمولد النبوي، ولكنه يعود ليتبنى وثيقة تنبذ العنف، ولكنها لا تحدد أي عنف ترفضه، وما هي البيئة التي ولًّدت العنف، وما هي السياسات التي وضعت ظهر الشعب إلى الحائط بينما تفعل سلطة الإخوان ما تريد. انضمت جبهة الإنقاذ التي اتخذت وصف "المعارضة" إلى الوثيقة، ولتنال حظها من رفض المتظاهرين وإدانتهم، وتنال الوقائع منهم ومن الوثيقة، وتظهر حقائق القتل والسحل والاختطاف والتعذيب، فيعلن "النابذون" للعنف انسحابهم من الوثيقة واستتابتهم عن النبذ، وكأن مصائر الشعوب عرضة لهذا التأرجح في المواقف. ولا يفقد الشعب طريق الإبداع، وتعلن الإعلامية هالة فهمي، عن تشكيل مجلس شعبي لإدارة اتحاد الإذاعة والتلفزيون، هذا الإجراء ينقل الكلام إلى فعل وهو أكثر عمقا من النقابة المستقلة، لأنه يمس فكرة السيطرة والإدارة ويواجه سياسات التمكين. الانتقال إلى مرحلة الإدارة هو بديل افتقاد الثورة لتنظيم يعبر عنها وقيادة لها. تشكيل لجان الإدارة الشعبية للمحافظات والوزارات والهيئات والشركات والنقابات ودور الصحف القومية، هو تحويل المظاهرات إلى واقع في الدولة، وهو أيضا أداة عزل السلطة عن إدارة الدولة. إن هذا الإجراء يلزم لنجاحه التفاف كل العاملين في أي جهة تؤسس لجنة إدارة شعبية لها من حول هدف انتزاع الإدارة. إنه العصيان المدني الإيجابي، وهو إيقاف لمسلسل الكلام كلام كلام، هو بداية التحول إلى فعل إيجابي. وتطبيق هذا الفعل يحتاج إلى رؤية صحيحة للخطوات التالية، أنها خطوة صحيحة على طريق استمرار الثورة. فمن سرق الثورة فلن يوقفه إلا الحضور الشعبي الفاعل. ولندرك أن الحضور الشعبي المنتج والذي يمثل زخم الاقتصاد الوطني وزخم الثورة تجري سرقته بواسطة لعبة التصويت، إن دور النقابات المستقلة في هذه الحالة يصبح ضروريا ومنتجا. وهنا تبرز الحاجة إلى رؤية اقتصادية وإدارية، إنها خطوة جوهرية لتجاوز الانهيار لدى كل الكيانات السياسية وهي معيار عملي لفرز القيادات الطبيعية في مجتمع الإنتاج. الأزمة في مصر لم تبلغ مداها بعد، ولم تنتج الحركة قياداتها الطبيعية، وليس من سبيل لاستعادة زخم الثورة سوى أن تكون فعلا يوميا وعلى كافة الأصعدة، والفعل هو معيار تحديد القدرة وبيئة إنتاج القيادة، وعندها يصبح للدم عائدة لصالح الثورة والوطن، وفي مواجهة اغتصاب الثورة والوطن.