13 سبتمبر 2025

تسجيل

كتابة لا تنسى

04 يوليو 2016

تعتبر رواية ليلة لشبونة، للكاتب الألماني أريش ماريا ريمارك، من الروايات الفذة التي رصدت الحياة في أوروبا أيام ظلامها في النصف الأول من القرن العشرين، هذه الرواية التي نشرت عام ١٩٦٢، مازالت في نظري طازجة، ونضرة، وتملك مؤهلات أن تقرأ الآن، ومستقبلا، فكاتبها ألماني، وعاش كابوس النازية، وفر في النهاية ليكتبها في وطن بديل بعيد. الرواية قائمة على الذكريات، وتحكى على لسان راو يحمل هوية مزورة، اقتناها من حطام رجل ميت صادفه ذات يوم، عاش وتنقل بها واعتقل، وفر، ويحكيها لعابر التقاه مصادفة في ميناء لشبونة في البرتغال، وكان يتطلع للسفر إلى أمريكا فرارا من وطأة الحرب وقسوتها، ساومه على منحه تذكرة ليعبر بها المحيط بشرط أن يستمع إلى قصته، وبالتالي يستمع القارئ للرواية، لهذه القصة المؤثرة، ويتفاعل معها أشد التفاعل.كانت ألمانيا - هتلر، قد تورمت، وغزت أوروبا بأكملها وأصبح الوجود كارثة لكل من له أفكار مناوئة، وأيضا الأبرياء الذين ليس لهم ذنب سوى أنهم وجدوا في زمن الجنون والحسرة، ننتقل مع الراوي المتخم بالذكريات من مغامرة إلى مغامرة، من سجن إلى حرية إلى سجن، والمطاردون دائما ما يملكون حصصا من التجارب لا يملكها غيرهم، يملكون الحيل، ومضادات الحيل، ويمكن أن يجوعوا ويعطشوا ويقتربوا من الموت، ولكن تظل الحيل موجودة ومتنامية، وهكذا في تلك السراديب التي تحمل السم، والشوارع التي تحمل رائحة الخطر، يتماسك هذا النص بقوة، ويوثق لتلك الفترة المظلمة من تاريخ أوروبا، بطريقة أكثر سهولة في الهضم، كما لو وثقها التاريخ الحقيقي.الذكريات لا تحمل هواء الحرب وحده، وهواء التشرد وحده، ولكن تحمل هواء الحب أيضا، حب البطل لزوجته هيلين، التي وشى به أخوها ليعذب في البداية، قبل أن يفر. هيلين الرقيقة، الطيف، المرأة التي لم يحل النص شفراتها بالكامل، وإنما ترك لنا مهمة حل بعض الشفرات، وهكذا ننغمس في القراءة، ونشارك الكاتب أيضا، كتابة ما كان غير موجود، أو إضاءة ما كان معتما من النص، وهذا في رأيي ترف إبداعي كبير، ولا يقدر على ضخه إلا القليلين.على أن رواية ليلة لشبونة، ورغم أنها تدور في زمن الحرب، لا توضح ذلك، هي تحوم حول الحرب وتداعياتها وانشغال الناس بها في كل الأقطار الأوروبية، لكنها لا ترسم معركة، ولا تورد ضحايا سقطوا في وسطها، ورغم ذلك أعتبرها من روايات أدب الحرب الهامة. الحرب الطيف التي تتجسد في كل ما يحيط بذلك العالم، لكنها لا تنشب في النص إلا في هيئة إشارات.في البداية، حين يعمد الراوي إلى اصطياد ذلك المهاجر البائس، ومقايضته بتذكرة إلى أمريكا، مقابل أن يستمع إلى قصته، نتساءل: ما الهدف من ذلك،، ولماذا هذا الليل قد انفتح لغريبين أحدهما يحكي والآخر يجتهد في السماع، وينتقل مع الراوي من حانة توشك أن تغلق أبوابها، إلى أخرى ستغلق أبوابها أيضا عما قريب؟لنكتشف في النهاية، إن الراوي أراد أن يتحرر من الذكريات التي يحملها في عقله، أراد أن ينتهي مما كان يعتبره أقسى ما صادفه خلال أيامه التي عاشها"الذكريات".