29 أكتوبر 2025

تسجيل

أعلام وأفكار (2)

04 يوليو 2015

عالمنا هو الإمام المؤرخ الذهبي، والفكرة التي نتعرض لها هي التعصب، والإمام الذهبي هو واحد من أئمة الحديث والفقه والإنصاف له باع طويل في هذا الجانب، فلقد استعرض الذهبي في كتبه وخاصة السير والتاريخ الكبير ما حدث في تاريخ الأمة من تعصب زائد أوصل بعض الأفاضل إلى الوقوع في بعض، نية كل واحد منهم خالصة في الانتصار لدينه أو ما يعتقده صوابا، ولا يمكن الجزم أن فصيلا أو حزبا -مهما بلغ اعتداله - خلا أصحابه من التعصب، وقد رصد الإمام الذهبي عددا من ذلك، على سبيل المثال ما نقله الإمام الذهبي عن ابن ناصر وجماعة أن "أصحاب القيرواني كانوا يشهدون عليه أنه لا يصلي ولا يغتسل من جنابة في أكثر أحواله، ويرمى بالفسق مع المرد، واشتهر بذلك.. ذكر الإمام الذهبي هذه الاتهامات، ثم ردها بقوله: هذا كلام بهوى". ذلك أنه كان متعصبا لمذهبه عليهم فقابلوه بهذا، فما وَلَّد التعصب إلا مثيلا له.وفي ترجمة أبي نعيم الأصبهاني المتوفى (430 هـ) نقل عن أبي بكر بن أبي على الذكواني (419هـ) أن أباه لما "فرغ من إملائه، قال إنسان: من أراد أن يحضر مجلس أبي نعيم، فليقم. وكان أبو نعيم في ذلك الوقت مهجورا، بسبب المذهب، وكان بين الأشعرية والحنابلة تعصب زائد يؤدي إلى فتنة، وقيل وقال، وصداع طويل، فقام إليه أصحاب الحديث بسكاكين الأقلام، وكاد الرجل يقتل. قال الإمام الذهبي معقبا: ما هؤلاء بأصحاب الحديث، بل فجرة جهلة، أبعد الله شرهم".وشدة لفظ الإمام الذهبي التي تجاوزت هدوءه المعهود، ودقة اختيار ألفاظه، الدافع إليها: خطورة المآل في الحكم على مسلم، حتى يستحل دمه على إثر خلاف فكري أو عقدي، وهذا ما لا ينبغي وإن خالف الصواب- في نظره- ما دام مراده معرفة الحق، ولقد بين الإمام الذهبي أن الدافع إلى مثل هذا الغلو، أو العمل الفاجر- كما سماه- هو الجهل: الذي حملهم على تجاوز حد الاعتدال في الحكم على المخالف، مؤكدا على أن التعصب لا يحمل الخير وأن الخطأ لا يعالج بمثله، والأصل في عمل الداعية إرادة الصلاح ما أمكنه، وتجنبه للتعصب وابتعاده عن مسبباته أحد أهم أسباب نجاحه الدعوي، أما التعصب للأفراد أو الجماعات فهو نذير شؤم عليه في المحيط الفكري إذ سيبدد وقته وجهده وفكره في الانتصار للفكرة لا الانتصار للحق، وإن لبس الشيطان عليه الأمر.وهذا الأمر يحتاج من المصلحين والمفكرين إلى وقفة هادئة، دون اتهام النيات أو تجاز حد الاعتدال في الحكم على الناس، فالواقع يشهد أن التعصب لا يتولد منه إلا تراجع دعوي، وتشتيت للجهود المصروفة في نتائجه، وهدر للوقت المبذول فيه، لأنه يتولد عنه في الغالب الأعم رد فعل مساو أو ربما زائد عليه، ذلك أن العصبية لا تعرف منطق العقل المعتاد، بل عمادها الحماس المشتعل وليس الحق المضيء والتزام الداعية بالبعد عن التعصب يحفظ وقته من الهدر فيما لا ينفع، وهو في نفس الوقت ينم عن إخلاص الداعيه لله، وتجرده للحق، وهذا يعد مظهرا من مظهرا الاعتدال، ووسيلة للتحرر من العصبية المقيتة. والتقيّد بالدليل متى لاح له بادر بالانقياد له، وإن كان ذلك على خلاف المذهب الذى يعتنقه، أو قول الإمام الذى يعظمه، أو الطائفة التي يتبعها.