13 سبتمبر 2025

تسجيل

هجر المخالف

04 يوليو 2012

مر في المقال السابق: أن ظلم المخالف محرم، فإن لزوم هجره وعدم الأخذ عنه فيما أصاب فيه ليس منهجاً معتدلاً، لأن هجر المخالف ليس واجباً لمخالفته، بل تدور عليه الأحكام حسب المصالح والمفاسد، فقد يكون وصْل المخالف واجباً، إذا علم صلاحه بذلك، أو كان في الوصل دفع لمفسدة أكبر قد تنتج على إثر هجره. وقد يكون الهجر واجباً: إذا علم صلاح حاله بالهجر، أو خيف هلاك بعض المسلمين ببدعته مع وصله، فليس الخلاف في حد ذاته سبباً للهجر، بل هو وسيلة دعوية تدور حول المصلحة الشرعية. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "الهَجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم؛ فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه، ورجوع العامة عن مثل حاله، فإذا كانت المصلحة في ذلك راجحة، بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان المهجور لا يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة، على مصلحته لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف أقواماً ويهجر آخرين". فالأصل أن يكون التعامل مع المخالف في الهجر وفق المصلحة الدعوية، والله أمر موسى وهارون بمخاطبة فرعون باللين، قال تعالى: "اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا" مع طغيان فرعون وفساده بل وكفره، والله يعلم أنه يموت على كفره، ومع ذلك يأمر موسى عليه السلام أن يكلمه باللين، فإذا كان هذا مع الكافر فكيف بمن دونه من أصحاب المخالفات من المسلمين؟!. وهجر المسلم للمسلم الأصل فيه النهي لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان: فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذى يبدأ بالسلام" وفي رواية: "يلتقيان: فيصد هذا ويصد هذا.." وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من مآل هجر المسلم لهوى فقال: "لا يحلّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاث فمات، دخل النّار". وهجر المخالف بلا قيد أو ضابط أمر مخالف لأحد مقاصد الشريعة، وهي: هداية الخلق إلى الحق كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه لما بعثه إلى خيبر: "لأن يهديَ الله بكَ رجلاً واحدًا خيرٌ لك من حمر النَعم". وقد كان أهل العلم يأخذون عن أهل الأهواء ما وافقوا فيه الحق، وعقد المحدثون أبواباً سموها: صفة من تقبل روايته وما يتعلق به، ومن ذلك الرواية عن المخالفين من أهل البدع، ويرون جواز ذلك بضوابط منها: ألا يكونوا ممن يستحلون الكذب، وألا تكون في بدعتهم (مؤيدة لها)، وقد روى البخاري ومسلم عن عدد كبير رمي بالبدع. وليس هذا في فروع العلم فقط، بل أحياناً يكون الاختلاف في أمر عقدي، ولا يحمل ذلك الداعية إلى هجر المخالف فيما صح عنه، فالحكمة ضالة المؤمن، وقد ذكر ابن رجب: أن محمد بن عبد الله بن عمّار الحافظ الموصلي (795هـ) سئل عن علي بن غراب (184هـ)؟ فقال: "كان صاحب حديث بصيراً به، قيل له: أليس هو ضعيفاً؟ قال: إنه كان يتشيع، ولست بتارك الرواية عن رجل صاحب حديث يبصر الحديث، بعد ألا يكون كذوباً للتشيع أو للقدَر، ولست براوٍ عن رجل لا يبصر الحديث ولا يعقله، ولو كان أفضل من فتح، يعني الموصلي". فالمدار على أخذ ما أحسن وأصاب فيه، فما ثبت صدقه وتمكنه في علمه أخذ به.