04 أكتوبر 2025
تسجيلمما لا شك فيه، أن الكتابة موهبة، والكتابة فن راق، وهي كما أصفها، وحل مميز اختص بعض الناس بخوضه من دون الآخرين، ولذلك ومهما كانت المجتمعات بدائية أو غير معنية بالثقافة كثيرا، إلا أنها تمنح وضعا جيدا من الناحية النظرية للكاتب، وتقدمه في المواقف التي تحتاج لقلم للتصدي لها، وأيضا هناك من يفخر بكاتب ما من وطنه وبكتابته، حتى لو لم يكن قد قرأ له شيئا. في ممارستي الطويلة للكتابة، التي تجاوزت العشرين عاما، أستطيع أن أقول وبارتياح كبير: إن الحياة التي يعيشها الكاتب عموما، ليست حياة سلسة كما يتوقع الآخرون الذين لم تصبهم لعنتها، أو جرثومتها كما أسميها دائما. الكاتب ملزم رغما عنه أن يحدق طويلا في واقعه المحيط، بحثا عن فكرة، أن يبدو متأنقا ولطيفا، وشديد السخاء في ما يمنحه للآخرين من لغة، وألا يثرثر في داخل المجتمعات إلا بمقدار، لأن هناك صفات غير منصفة، وجاهزة، ستمنح له حتما إن بدا للناس أكثر ثقافة ومعرفة، حتى لو كان كذلك بالفعل. وحين يصبح الكاتب اسما كبيرا، وشخصية لامعة، تكثر السكاكين التي تسن في الخفاء لجز اسمه، وبذلك تتضح جليا تلك اللعنة التي لم تكن اختيارا، وكانت قدرا. في بداياتي الكتابية أمسكت بكثير من المواقف التي أسميتها آثارا سلبية للكتابة، وكانت تحذيرات مبكرة، للفرار من تلك اللعنة، لم أتبعها مع الأسف، كنت طالبا في المرحلة الإعدادية والثانوية، حين عرفتني مدينتي شاعرا يكتب الأغنيات، وكان من توابع ذلك، أنني اضطررت في كثير من الأحيان، أن أبدو أكبر سنا، وأكثر غنى، من أشخاص أحاطوا بي باعتبارهم معجبين لما أكتبه، كنت أدفع لدعوات غداء أو عشاء، لم أكن من دعا إليها، أركب مواصلات خاصة وغالية، لأن الشاعر، لا يستطيع التزاحم مع الناس في مواصلات عامة، وكان هناك من يتصيدون ظهوري هنا وهناك ليطالبوني بما لا أستطيع فعله، وأذكر أنني ظهرت ذات يوم في برنامج تلفزيوني اسمه نداء السودان، وكان ذلك عام ١٩٨٧، عقب فيضانات وأمطار غزيرة، اجتاحت البلاد، كنت في سنتي النهائية في الجامعة، في مصر وجئت إلى السودان في إجازة قصيرة، وقد قرأت في ذلك البرنامج قصائد مباشرة كنت قد كتبتها عن انتفاضة مارس- أبريل التي أطاحت بحكم جعفر النميري. وفيها كما أذكر قصيدة اسمها: دموع عم أحمد. بعد ذلك البرنامج الذي تكررت إذاعته عدة مرات، لم أعد أستطيع المشي في الشوارع بخطوات الطلاب العادية، أمشي في أي طريق، فأسمع من ينادي: عم أحمد، أركب أي باص عام، فأجد فيه من يعرفني ويعرف دموع عم أحمد، وأعود إلى بيت أهلي فيطرق الباب من يسأل عن الشاعر الذي كتب دموع عم أحمد، وحين ركبت مرة قطارا مزدحما متجها للعاصمة، لم أجد فيه مكانا إلا في الدرجة الرابعة، جاء من يلفت إلي النظر، وكان مدرسا للغة العربية، وجدته أمامي يصرخ فجأة: شاعر عالمي في الدرجة الرابعة؟، وكان ذلك يوما من أبأس الأيام التي عشتها، حيث اقتادني المدرس إلى غرفة في الدرجة الأولى للقطار، أغرقها بالطعام الفاخر الذي قام بطلبه من البوفيه، واتضح بعد ذلك أنها غرفة بلا حجز ولا تذاكر، ولا يملك المدرس قرشا واحدا يدفعه، وقمت بتغطية تلك التكاليف بمصروفي البسيط، حتى لا أدخل السجن، ولم يبق لي ما أذهب به إلى بيت أقاربي في العاصمة.