19 سبتمبر 2025

تسجيل

رحيل الفيتوري

04 مايو 2015

حقيقة أعتبر رحيل الشاعر الكبير محمد مفتاح الفيتوري، خسارة كبيرة، فقد كان واحداً من صنّاع القصيدة العربية الحديثة الأوائل، ومن الذين عتقوا الشعر من عبوديته القديمة وأطلقوه حراً، ليشدو كيفما يشاء، ومعروف أيضاً أنه وبرغم تقلّبه في مسألة الهويّة التي كانت سودانية في البداية، ثم ليبية، ثم سودانية في الآخر مرة أخرى، إلا أن قصيدته لم تفقد أبداً اتزانها، هي نفس القصيدة الأولى التي خرجت في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وأعني من ناحية الحرارة والتوهج، وهكذا تمكن قراءة الفيتوري في أي وقت، دون إحساس بأنه تطوّر أو تأخر، حسب تلك التصنيفات المعروفة. كنت تعرّفت على شعر الفيتوري باكراً، كانت دواوينه الأولى التي تتغنّى بإفريقيا ككيان حر، بلا عبودية ولا سادة يتحكمون في خيراتها، موجودة في مكتبة بيتنا التي وعيت قرائياً على الكتب التي كانت فيها، فقد كانت المكتبة المنزلية في أيام طفولتنا، أداة فاعلة من أدوات الحياة العامة، تماماً كسلة الخضار، ومطبخ البيت والسرير الذي ينام عليه الشخص. بعكس هذه الأيام التي أصبحت فيها المكتبة، إما ديكور خامد بلا روح، وإما مجرد رف مغبر لا يحمل سوى كتاب أو كتابين لا يقترب منهما أحد من أهل البيت. أذكر أنني قرأت كل تلك الدواوين، ودواوين لشعراء من جيله أو أجيال أخرى، ومنها دواوين لفؤاد حداد، وصلاح جاهين، وعبد الرحمن الأبنودي الذي رحل أيضا في الأيام الماضية، وكنت أحفظ قصيدة الفيتوري الشهيرة: معزوفة لدرويش متجول، أسوة بأبناء جيلي جميعاً، حيث كانت تلك القصيدة، أغنية خالدة لا يملّ من ترديدها الجميع.بعد ذلك تابعت الفيتوري في قصائده التي كتبها في منفاه، أو مغتربه بعيداً عن السودان، وكان يحمل هوية ليبيا ويعمل دبلوماسياً ليبيا، تنقّل في عدة أماكن، حاملاً سحنته التي هي سحنتنا، وقصيدته التي هي عربية، بدم إفريقي، وكان قد أصدر ديوانه: قوس الليل... قوس النهار، الذي أعتبره مواصلة لتجربته الحياتية، الشعرية الصوفية، وأيضاً الحارة بدم إفريقيا، وأظنني كثفت قراءاتي بعد ذلك في مجال السرد، فلم أطلع حتى الآن على ديوانه الأخير الذي أصدره في الألفية الجديدة.شعر الفيتوري، إضافة إلى نكهته المسيطرة كأناشيد تحرّرية أو صرخات تنادي بالعدل والمساواة، أخذ كثيراً من التجربة الصوفية، ولا أعني هنا، نظم القصيدة المادحة بالصورة التي تعودنا عليها عند الصوفيين، ولكن نظم قصيدة تحوي كثيراً من التأملات الفلسفية والحوارات بين الذات والذات، ولعلّ قصيدته "ياقوت العرش" من تلك القصائد التي حملت ذلك النهج، وطافت به على الآلاف من متذوقي الشعر.رحم الله محمد الفيتوري، الذي سيظل شعره خالدا، ويظل اسمه من العلامات الكبرى التي يتوقف أمامها كل جيل.