18 سبتمبر 2025

تسجيل

كوخ العم توم

04 مارس 2014

لا أدري لماذا تقترن رواية العمّ توم بقصة "تودّد الجارية" كلّما تردّت الإنسانية في مهاوي الظلم السحيق، وانضمّت شرائح جديدة إلى الجماعات الأقلّ فقراً، وبرغم أن الحكايتين تنتميان إلى عالمين مختلفين من حيث الزمان والمنبت الثقافي، إلاّ أنهما مرتهنتان إلى نظام اجتماعي يبيح استباحة الكرامة بمقابل.تقول القصة إن تودّد جارية لرجل شاب، تكاملت فيها صفات الفطنة والذكاء والعفّة والجمال والحُسن، إلاّ أنّ الرجل قد أفلس، ولم يعد أمامه إلا بيع أشيائه القديمة، ومنها تلك الفتاة التي يمكن لبيعها أن يكفيه الإفلاس، فما كان منه إلاّ أن عرضها على ما يشبه الفحص الفنّي للسيارات في زماننا، إذ تنعقد لجانٌ مختلفة مهمتها سبر مستوى الفتاة في الفقه واللغة والمنطق والتنجيم، في سرديةٍ بالغة التشويق تنتصر للفتاة المظلومة في عوالم بغداد الفاتنة والقاسية في الوقت ذاته، وبعد أن تنال استحسان لجان الاختبار المتعددة تجد من يتبرّع بثمنها ويعيدها إلى حبيبها الهائم المغلوب على أمره، ثمة سردية هشة تقوم على محاورات تعليمية لا تخرج عن أمالي العصر العباسي، غير أن الوحدات التكوينية الكبرى تتحدّث عن ضياع القيمة الإنسانية، فالبشر صاروا مجرد مهارات قابلة للبيع، وليست مهارات محدّدة لوجود الفرد في المجتمع.في حين تبدو رواية " كوخ العم توم" للأمريكية هرييتبتشرستاو أصلب عوداً، وأكثر إقناعاً في لغة السرد، العم توم أقرب إلى مملوكه من عبد، لقد عاشا معاً عمراً طويلاً، أثمر عن مزرعة وعائلتين متحابّتين، وفق نظام اجتماعي مقبول، ولكن وفاة السيد وانتقال أمر المزرعة إلى الورثة جعل الورثة يبيعونها بما فيها وبمن فيها ليفكّوا الدين، ليقع توم رهينة النخّاسين.مرويّة كوخ العمّ توم أثرت في إبراهام لنكولن الذي أعاد للعبيد حريّاتهم في الحرب الأمريكية ستينيات القرن التاسع عشر، وقصة تودّد الجارية لم تتعدّ غير حكاية دافئة من حكايات ألف ليلة وليلة في المجتمع الأسطوري المنسوب إلى هارون الرشيد، وكانت إشارة لم ينتبه إليها أغنياء بغداد، وكانت النتيجة في خراب البصرة بعد ثورة الزنج. الحرب الأهلية الأمريكية قامت بين ولايات الجنوب وولايات الشمال وأسفرت عن انتصار الشماليين وتحرير العبيد، فهي حرب بيضاء فاز بنتيجتها السود، البيض دائماً في المتنكما يقول إدوار سعيد، في حين كانت ثورة الزنج ردة فعل لم تسفر إلا عن تخريب بلاد عامرة، ومرات تشير إلى مخربين. في الحضارة الحديثة تباع قدرات الإنسان ومهاراته ووقته في مسميات جديدة تستبطن ما استكملته الحضارات الغابرة، ولم يعد معيباً أن تقول إن سعر اللاعب بلغ مائة مليون دولار، أو أن مهندساً في شركة حواسيب قد وظّف بمبلغ محترم، أو أن مطرباً وقع عقد احتكار مع شركة جديدة بمبلغ خرافي، فلاعبو الكرة ومجاميع الغاوين الجدد (المشجعون) يهتمون بالأرقام التي تدفع لهم، ولا يجدون ضيراً أنهم معرضون للبيع في أي لحظة، لأن المشتري مجموعة من الشركات العملاقة التي تقيّم السلع الجديدة باحترافية عالية. وكذا العقود التي يبرمها المطربون والممثلون ومذيعو نشرات الأخبار الرئيسية، في معايير قد تشارك فيها عدد زيارات اليوتيوب وعدد الأهداف والمشجعين ونسبة مبيعات القمصان. فالإنسان الحديث وبرغم سعيه إلى ملامسة فضاء الحريّة في القرنين الماضيين، إلاّ أن النظام الاجتماعي السابق الذي وسم الجارية والعبد بميسمه لم يمت تماماً.