15 سبتمبر 2025
تسجيلمنذ مدة، لفت نظري زميلنا المترجم القدير عبد الودود العامري، إلى خلو أدبنا العربي مما يعرف برواية التقصي، التي توجد بكثافة في الآداب الأخرى، ليس المقصود هنا الرواية البوليسية التي تبني على جريمة معينة وطلاسم عديدة، لتصل إلى حل معين، يوجده الكاتب في النهاية، كما نلاحظ في أدب أجاثا كريستي الواسع الانتشار، وروايات استيفن كينج، وغيرهما، لكن الرواية التي تتبع تاريخا معينا لأحداث حقيقية معينة قد تغير وجه المستقبل، وضرب بذلك مثلا لرواية إنجليزية، تتبعت تاريخ كتابة القاموس الإنجليزي، وحفلت بكل الشروط المطلوبة لكتابة الرواية بما فيها الأحداث والشخوص وأيضا التشويق الذي يحتاجه القارئ ليتبع رواية ما. فقط كانت نهايتها أن القاموس الإنجليزي، كتب بالفعل. ما ذكره العامري حقيقة، فالرواية العربية في أغلبها حتى الآن، تتبع تجارب الكاتب التي ربما يكون قد عاشها أو سمع بها أو قرأ عنها، واختمرت فكرة في ذهنه، ليقوم بكتابتها لاحقا، وفي السنوات الأخيرة، أقام عدد من الكتاب، جسورا لا بأس بها مع التاريخ، وصار ذلك البعيد الغامض المدون في الوثائق، مادة غزيرة في كتابتنا، ونتسابق في كتابته كل حسب ما يرى. هناك من يأخذ شخصية تاريخية معينة، مثل سيرة ملك أو قائد أو ثائر، يتتبع سيرتها الحقيقية، ليعيد صياغتها من جديد، وهناك من يأخذ حدثا تاريخيا معينا، يبني عليه رواية من الخيال. وفي النهاية لا بد من شد القارئ ولفت انتباهه وتشويقه، ولا بد أيضا من الابتكار، حتى لا تسقط الكتابة في فخ التكرار والرتابة. وفي مراجعة سريعة لحوادثنا العربية قديمها وحديثها، عثرت على أحداث كثيرة تصلح لاختيارها مادة لرواية التحري أو رواية التقصي. لدينا علماء اكتشفوا دورة الدم، وعلم الفلك وسير النجوم قبل غيرهم، لدينا مصممون مثل المهندس حسن فتحي، اهتدوا إلى فن عمارة إسلامي خاص، ومتفوق، وآخرون أسهموا في الارتقاء بتقنية الاتصال وكثيرون في مجالات عدة. مأزق رواية التحري، هو أنها تحتاج إلى قراءات مكثفة، وتتبع صادق للحقيقة قبل ظهورها، أي منذ كانت فكرة في ذهن أحد. هي تحتاج إلى ثقافة لا يمكن اكتسابها بسرعة في عصر ضيق الوقت والمشاغل ولا يمكن للخيال أن يلعب دورا كبيرا، كما هو الحال في الرواية العادية، ما دامت هناك أحداث حقيقية، حدثت بالفعل وغيرت شيئا من وجه الحاضر الذي نعيشه. والكاتب اليوم مثله مثل أي إنسان آخر، يعاني من مشقة الحياة، ولا يستطيع التفرغ لكتابة مثل هذه الروايات. أقترح أن تتبنى جهة ما مسألة مشروع كتابة رواية تحر عن مواضيع تحددها، وذلك في شكل مسابقة لها جوائز مرضية، وتجعل الكتاب يركضون إلى البحث في جذور تلك المواضيع، لتخرج إلى المكتبة العربية كتابة جديدة، وما فعله صديقنا العراقي علي بدر في روايته (حارس التبغ) مثلا، يصلح نواة لذلك النوع من الكتابة، حين جعل بطله يتحرى عن حياة موسيقار شهير، هي رواية من الخيال بلا شك، ولكن تشبه في صياغتها رواية التقصي التي أقصدها.