18 سبتمبر 2025
تسجيلتختزن تفاصيل الصحفي محمد كريشان التي نشرها في كتاب "وإليكم التفاصيل"، تقاطعا بين مسيرته المهنية كصحفي عمل طوال أربعين سنة مع عدد من المؤسسات الإعلامية التونسية والعربية والدولية، وبين أحداث مفصلية عاشها العالم، والعالم العربي بالخصوص. لا يعتبر كريشان كتابه مذكرات، ولا هو تأريخ للمراحل الإعلامية التي عاشها على امتداد مساره المهني، ولا هو كذلك تحليل لأحداث مفصلية واكبها، بل يصرّ على اعتبار الكتاب ذكريات رسخت بذهنه من أحداث واكبها، وشخصيات عاشرها، ومشاعر استبدت به أثناء لحظات مفصلية عاشها العالم العربي لا يمكن أن تترك الصحفي محايدا مهما تمسك بقواعد المهنة وتحكم في مشاعره. بعد أن تنتهي من قراءة كتاب "وإليكم التفاصيل" يرتسم بذهنك سؤال أساسي، مفاده ماذا يعني أن تكون صحفيا؟ 1. الحرية اختار الطالب الشاب الذي تجاوز بالكاد العشرين من عمره أن يتوجه إلى مدير صحيفة الرأي المستقلة التي كانت ترمز إلى الحرية والتعدد والجرأة في تونس ضمن مشهد إعلامي تهيمن عليه سلطة مركزية قوامها الحزب الواحد والرأي الواحد. وقد نجحت ثلاث أو أربع صحف حينها أولها صحيفة الرأي في كسر ذلك الحصار. نجح في مغامرته فأصبح محررا للشؤون بالصحيفة بعد اقتناع مديرها حسيب بن عمار الوزير السابق الذي آمن بالتعددية السياسية والحرية الإعلامية. اختيار صحيفة الرأي دون غيرها من الصحف، يبرز إيمانا بحرية الإعلام تواصل معه في مختلف المؤسسات التي عمل بها كما يتجلى ذلك في اختيار المواضيع والمحاور وزوايا التناول، ومثلما تعكسها أيضا التجارب الحقوقية التي خاضها بالتوازي مع العمل الصحفي بالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الانسان ولاحقا في اللجنة الدولية لحماية الصحفيبن. وإن كان لم يتطرق إلى التجربتين بالتفاصيل في كتابه. كان يمكن للصحفي الشاب أن يختار صحيفة رسمية بدفع من بعض أساتذته النافذين في القطاع الاعلامي آنذاك ويضمن موقعا قد يكون مريحا، لكن الصحافة كما درسها وحلم بها لا تنفصل عن الحرية التي لم تكن تتوفر في مؤسسات تهيمن عليها الدولة، وأداؤها أقرب إلى الدعاية الحزبية والحكومية منه إلى الصحافة، بما لا يترك للصحفي مجالا لممارسة مهنيته حتى وإن كان على مستوى عال من الحياد، كما حدث مع كريشان حين تم إيقاف برنامجه من الاذاعة الرسمية التونسية مطلع تسعينات القرن الماضي في تجربة لم تعمر طويلا، وانتهت بمجرد وشاية على الرغم من نجاح البرنامج. 2 المخبرون وأخلاقيات المهنة أن تتمّ "استضافة" تلميذ شاب في مكاتب أمن الدولة للتحقيق معه حول موقف عبّر عنه أثناء الدراسة أو رأي أبداه بالفصل، فبالتأكيد سيجعله يتساءل وهو الذي لم يخض تجربة سياسية، بل هو يتحسس معنى السياسة من خلال مطالعاته ومتابعاته لما يدور حوله، يتساءل قائلا: " هل يمكن أن يكون بيننا من يعمل مخبرا في هذا العمر؟ فجلّنا لم يتجاوز الثامنة عشرة أو بالكاد؟". تجربة ستترك بالتأكيد بصمتها في ذاكرة صحفي لم يسلم من وشاية المخبرين، كذاك المخبر الذي وشى بنفسه حين اعترضه كريشان صدفة ولم يكن على معرفة مسبقة به وقال له دون مقدمات: "والله لا دخل لي في إيقاف برنامجك في الإذاعة التونسية، لست أنا من نقل كلامك في حفل السفارة الأمريكية". لكن ثمة مخبر آخر حرص على إنهاء تجربة كريشان كمراسل لجريدة عكاظ السعودية من تونس بدعوى أن "كريشان شخصية معارضة ووجودها يعتبر مسيئا لعلاقات تونس بالرياض" كما سأل رئيس تحرير الصحيفة هاشم عبد هاشم الذي زار تونس ليلتقي وزير الإعلام التونسي حينها عبد الرزاق الكافي بغاية التحقيق في هذه المسألة بعد أن وصلت الصحيفة رسالة بهذا المعنى من جهات رسمية سعودية في الرياض، لم يكن الكافي مقتنعا بهذا الكلام لأنه يعلم بالتأكيد مواقف كريشان ونشاطه. لكن المخبر بقي سريا هذه المرة ونجح فعلا في إنهاء العلاقة بين كريشان والصحيفة السعودية بعد أن أخذت الوشاية أبعادا سياسية. جهود المخبرين السريين سارت في نفس نهج المخبر العلني عبد العزيز الجريدي رئيس تحرير صحيفة الحدث التي اختصت في شتم الشخصيات المستقلة والحقوقية المعارضة في زمن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، ولم يسلم من سهامه المسمومة كريشان فقد خصّص له الجريدي جملة من المقالات جرّاء دوره في الجزيرة وكتاباته في صحيفة القدس العربي، كلها ثلب وشتم واتهامات بالعمالة والخيانة مع اختيار أقذر الألفاظ. حملة منظمة دفعت كريشان إلى اللجوء إلى القضاء بعد الثورة التونسية وربح القضية. مقاومة المخبرين الذين تعتمدهم السلطة الديكتاتورية، لبسط سيطرتها المطلقة على الإعلام تكون مجابهتها باحترام أخلاقيات المهنة والدفاع عنها بمزيد الكتابة بما يؤمن به الصحفي، لأن المخبرين عادة ما يزولون بزوال من وظفهم في حين يواصل الصحفي مسيرته، تحميه مهنيته وتدافع عنه مضامين عمله. وكلما كان التمسّك بأخلاقيات المهنة قويا ومبدئيا كلما كان الدفاع أقوى. **لطفي حجي (مدير مكتب قناة "الجزيرة" في تونس)