14 سبتمبر 2025

تسجيل

في اقتحام الغريب

03 نوفمبر 2014

كان الطريق بينهما صامتاً في الغالب، لكنّ ثرثرة داخلية كانت تتكوم أحياناً في صمت المحجوب، وتنزّ من حين لآخر في شكل إشارة أو همسة أو نصف ابتسامة، ولم يتحدث بوضوح إلا حين حاذيا بيتاً من الحجر، مُقاماً على دكّة عالية، يخصّ أحد المهاجرين العائدين حديثاً إلى البلدة، لحظتها قال المحجوب إنه قد يشتري هذا البيت، فقط لو يتنازل صاحبه ويعرضه للبيع.وصلا أخيراً إلى استراحة الحكومة، ذلك البناء الحجري الصامد منذ زمنٍ طويل، اقتحما المدرّس وهو يقاسي في قيلولة الغرباء المحزنة التي لن تشبه أيّ قيلولة لأحد من السكان في تلك البلدة الريفية.كانت تحت يده رسالة يكتبها إلى أهله في الشمال، وأمام عينيه برقية وصلته للتو من مكتب البريد الصغير المتواضع، كانت في قلبه الجائع عواطف بحجم تلٍّ تغلي وتبرد، ويرقد بالقرب من فراشه القديم المتآكل كتابٌ وسيم من كتب الطهو، أحضره معه، ألقى عليه المقتحمان نظرةً عجلى لم يكملا خلالها تصفّحه بعناية، وسحباها.ذكّره شاطر، في شبه اعتذار، بأنه التاجر الذي اشترى منه التنباك في الأمس وصباح اليوم، ولم يكن من الصعب تذكّر تاجر توغّل فيه حتى عرف سيرته الذاتية، وامتلك إمكانية أن يحرّف فيها، عرّفه بالمحجوب بوصفه أحد الوجهاء الذين لابدّ لأيّ غريب أن يتعرف إليهم ويتوغل في معرفتهم. صادقاه عنوةً وبشكل سافر، وعلى مدى ساعتين وأكثر، حتى فقد تجهّمه، أصبح يضحك بقرقرةٍ من مصارينه، ويبتسم بأسنان صفراء من فعل التنباك، يناديهما بلقبين لا يشبهانهما، اخترعهما في التوّ واللحظة: شطّوري ومحجوبي، يتوغل أكثر، يصيح: يا ابنَي العم، يا ابنَي العم، ويضرب على أكتافهما بنشوة، وهما الخشنان اللذان كانت أكتافهما كأنها أكتاف نوق صحراوية.كانت الخطوة الأخيرة في غاية الأهمية، الخطوة التي قد تمحو في لحظة واحدة جريرة شاطر حين تحمّس بلا وعي واخترع فقرتين تافهتين لا يمكن أن تمرّا، لو درست الحضرمية سيرة الغريب، مرورَ نسمة رطبة تلفح الخد وتنزاح.في تلك الرفوف الداخلية في محله كانت للمحجوب عدة تذكارلات، لمّها من زياراته المتعددة للمدن ومن ضيوف يأتون أحياناً ويذهبون، واعتقد أنها تصلح لتزيين الخطة، وضعها في ذلك الكيس المعتم، والآن يخطو بجدية والغريب مدغدغ في نشوة الصحبة الجديدة: محجوبي وشطوري، ويعرف الآن أسماء الزوجتين، أسماء عيال الصاحبين الذين سيراهم قريباً، أسماء الجيران الذين سيحضرون وجبة عشاء سيقيمها المحجوب في بيته من أجله. كان ثمة شيء آخر التمع في ذهنه ولم ينطفئ، أن يحصل على وقود المزاج من عند شاطر بلا مقابل، وعدة خواتم أو أسورة من ذهب المحجوب، يعود بها إلى زوجته في أقرب عطلة دراسية.