13 سبتمبر 2025
تسجيلقبل أيام، أصدرت الصين وثيقة بيضاء مهمة شديدة الأهمية تحت مسمى «المصير المشترك للمجتمع العالمي: أعمال واقتراحات الصين». استعرضت فيها رؤية الصين لبناء عالم أفضل في ظل القيادة الصينية، وليس الهيمنة الصينية. إذ انصب تركيز الوثيقة على رفض الصين لفكرة أو مصطلح «الهيمنة»، التي وصفتها -طبقا للوثيقة- بكونها مرادفا لاحتكار القوة المطلقة والتسيد على الآخرين، وعقلية المباراة الصفرية، والتوسع عبر القوة العسكرية. مقابل ذلك، استعرضت الوثيقة نهج القيادة الدولية الحميدة أو الرشيدة للصين، المستند الى طرح الصين نفسها للعالم كصانع للتنمية المفيدة لنفسها وللآخرين، والعمل على تعزيز فرص متساوية للنمو والازدهار للجميع في ظل نظام معولم. وهذا في حد ذاته سيساهم في توطيد السلام والاستقرار في العالم، ويقضى على عقلية المباراة الصفرية والصراعات الجيوسياسية. تحدثنا كتب تاريخ العلاقات الدولية عن أنماط متعددة من الهيمنة العالمية. فهناك النمط الشائع «الهيمنة العسكرية الواقعية» التي تفرض فيها القوة المهيمنة هيمنتها على العالم بالقوة العسكرية والأساليب القسرية كالولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وهناك نمط «الهيمنة الليبرالية» وفيها تسعى القوة المهيمنة على فرض هيمنتها عبر نموذج وأدوات ومؤسسات اقتصادية عالمية، وتعد الولايات المتحدة بعد الحرب الباردة نموذجا لتلك الهيمنة وذلك من خلال فرض النظام النيوليبرالى العالمي وهيمنة الدولار ومؤسسات بريتونوودز (البنك الدولي وصندوق النقد الدولي). وهناك نمط فريد وهو الذى تتبعه الصين حاليا وهو «الهيمنة الجرامشية، أو المقبولة». وهذا النمط أقرب للقيادة عنه كونه هيمنة. إذ يستند هذا النمط الى طرح القوة الساعية للقيادة العالمية نموذجا وأدوات ومبادرات تنموية وحضارية واقتصادية تتسم بقدر كبير من المعقولية والرشادة والعدالة، وهو ما يدفع الدول إلى الانضمام إليها طواعية وليس جبراً لشعورهم أنها تحقق مصالحهم وتعظم مكاسبهم وتحافظ على أمنهم وسيادتهم. أو عبارة أخرى، يتنامى شعورهم أن مصلحتهم متوافقة مع مصلحة القوة القائدة الحميدة. والسؤال المثار الآن، لماذا تتعمد الصين تبنى هذا النموذج للهيمنة؟ وإلى أي مدى نجحت في تطبيقه؟ وتتعمد الصين اتباعه لثلاثة أسباب رئيسية واحدة منها ذكرتها صراحة في الوثيقة، وهى إدراك الصين الحكيم لدروس التاريخ حيث انتهى مصير القوة الساعية إلى الهيمنة عبر الإكراه العسكري للانتحار مثل الاتحاد السوفيتي وألمانيا النازية، كما أن استدامة هذه الهيمنة مستحيل بسبب القوة المضادة التي ستنشأ للقضاء عليها. والثاني هي تقاليد وثقافة وتاريخ الصين السلمية المعادية لمسالة فرض الهيمنة جبراً. فالصين كانت إمبراطورية في القرون الوسطى عبر نشر ثقافتها وتأثير طريق الحرير القديم. وأخيرا، هو امتلاك الصين لمخزون من الخبرات والتجارب والأدوات القديمة والحديثة التي تمنحها المقدرة على إنجاح خططها للقيادة الدولية الحميدة. إذ غدت الصين في غضون عقدين قوة اقتصادية تنموية جبارة، مما أهلها بان تكون نموذجا فريدا للنمو والتنمية-ليس غربيا- يحتذى به في العالم. وأصدرت الصين الوثيقة، وهى متسلحة بنجاحها الواسع خلال عقد في جذب معظم دول العالم في الفلك الصيني طواعية. فمبادرة الحزام والطريق التي تعد اهم مبادرة صينية لتعزيز القيادة الدولية الحميدة للصين، يبلغ عدد أعضائها حاليا نحو 150 دولة. فمن خلال المبادرة، ازدهرت اقتصادات العديد من أعضائها، وساهمت الصين في تطوير البنى التحتية للكثير من الدول، لاسيما لدول مجلس التعاون الخليجي. كما استحوذت دول المبادرة على احدث التكنولوجيا الصينية كشبكة جى 5. وهناك أيضا تجمع البريكس الذى تقوده الصين، حيث يتوسع باطراد فمؤخرا انضمت إليه خمس دول من بينهم ثلاث عربية، كما يتلقى التجمع طلبات للانضمام من عشرات الدول. وناهيك عن ذلك، ففي ظل القيادة الحميدة للصين، تطرح الصين نفسها كمبادر لحل التحديات العالمية الخطيرة وعلى رأسها قضية التغير المناخي. ففي إطار مبادرة الحزام والطريق، تدعم الصين معظم المشروعات الخضراء. كما تطرح الصين نفسها كوسيط عالمي صانع للسلام، إذ قدمت العديد من المقترحات لإصلاح الأمم المتحدة. كما نجحت وساطتها في تطبيع العلاقات بين إيران والسعودية. والحديث عن منجزات القيادة العالمية الحميدة للصين يحتاج إلى عشرات الكتب في حقيقة الأمر. لكن الشاهد في الأمر، أن الصين قد بات قائدا عالميا حميدا وبمحض رغبة وإرادة معظم دول العالم، التي تنضم إلى مبادرات ومشروعات الصين طواعية لشعورها بانها الوسيلة الأمثل لتحقيق مصالحها وتعظيمها. وهذا في حد ذاته سيساهم في استدامة القيادة الدولية للصين ربما لقرون، وانتقال النظام الدولي إلى القيادة الصينية المطلقة أو التعددية القطبية بشكل سلس وليس عنيفا كالعادة، لأن أصدقاء وحلفاء خصوم الصين الرئيسيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة، هم أيضا باتوا يدورن في فلك القيادةالحميدةللصين.