15 سبتمبر 2025
تسجيلالتقى الصديق في المعتقل بأحد قيادات الإخوان، والذي يتولى الآن منصبا تنفيذيا عاليا في مصر، وسأله حينها الصديق عن الجماعة وكيف يراها، وفوجئ بإجابة الرجل: إنهم ينظرون للخلف ويتحركون بظهورهم للأمام! كانت الإجابة مفاجأة للصديق في حينها وبذات القدر كانت مفاجأة لي حين سمعتها. ومن ملاحظات الصديق على الرجل أنه يفعل كل شيء لنفسه وبيديه رغم أن في المعتقلات هناك من يقوم بالخدمة لمثل هذا الرجل، حتى أنه دعا الصديق إلى كوب شاي في زنزانته وقام بنفسه بغسل الأكواب وإتمام الضيافة. ينظرون للخلف ويتحركون بظهورهم للأمام، وصف لا ينطبق على جماعة الإخوان وحدها، بل يكاد يكون سمة عامة تشترك فيها الجماعات والتيارات والتنظيمات والأفراد أيضا، أغلبهم قادم بالماضي، ويرتكن على سمعة تحققت في فترة ما من تاريخ مصر، ولم يطرح أي منهم بعد مبررا لوجوده هو بذاته، برؤية وخطة عمل ورجال. بعيدا عن اليأس أو ادعاءات الحكمة والحكم المسبق على الأمور، تحيا مصر حالة أقرب إلى كابوس أسود يكاد يقتلع الأخضر من الأرض ويقتل أي أمل لدى الشعب الذي تتعاظم حالته سوءا كل يوم. شهدت الأيام الماضية تشكيل أحزاب سياسية، واندماج لأحزاب متعددة، وإعلان ائتلافات وتيارات، وجميعها تدور بين ذات النخبة، وفي ذات القشرة السياسية من المجتمع دون أن تضرب بجذورها في المجتمع، وتحمل منهجا واحدا بعد انعزالها عن الشعب وهو "أنها وحدها الحل للأزمات"، ولا يجيب أي منها عن السؤال الجوهري كيف؟ وغاية ما تطالب الشعب به بكل معاناته أن يمنحها صوته في الانتخابات القادمة، ولم يقولوا لنا وفق أي دستور ستكون هذه الانتخابات، وطبقا لأي قانون انتخابي، ومن سيصدر هذا القانون، أم أن ما يحكم موقفهم من الدستور والقانون هو أحلام اليقظة. استمرار الرفض والشجب والإدانة دلالة عجز عن الفعل، ومجرد الاكتفاء بالمطالب الجزئية حول الدستور والتشريعات المكملة، وعدم اتخاذ موقف موحد من الجمعية التأسيسية للدستور هو دلالة غياب الإرادة السياسية. الحياة فوق الأرض المصرية كما الأفكار تنتقل من حالة اغتراب إلى مزيد من الاغتراب، وفترات الفعل الوطني فوق أرضنا تبدو محدودة ونادرة، نمسك بها لاستدعاء الرضا بالعجز عن الفعل والتسامح معه والتعايش، ونملك قدرة غريبة على إجهاض التاريخ والقيم، ونصم أي لحظة إنجاز في تاريخنا بالنواقص، ونخلعها من تربتها ومن الزمن الذي جرت فيه، وننزع عنها ما حققته، حتى يمكننا التعايش مع حالة العجز، وكأننا نهدم بأيدينا الصروح فوق رؤوسنا دون أن نقدم بديلا معاصرا، لنستمر في اجترار الحياة دون صنعها ودون توفير الأسباب الحقيقية لاستمرارها وتطويرها وتوفير احتياجات التقدم. أعادت ثورة يناير 2011 كلمة الثورة إلى القاموس المصري من حيث اللفظ، وأبدعت للإنسانية نموذجا جديدا لحركة الملايين الشعبية دون تنظيم أو قيادة، ولكن غاب عن القاموس المصري أن الثورة هي علم تغيير المجتمع. وصف الأستاذ محمد حسنين هيكل الثورة الإيرانية بأنها رصاصة انطلقت من القرن السابع لتستقر في قلب القرن العشرين، وقياسا على هذا التعبير فإن الثورة المصرية انطلقت من القرن الواحد والعشرين ولم تستقر بعد، رغم كل محاولات إعادتها إلى ما قبل القرن السابع، إلى زمن الجاهلية. أكلت الوحشة النفوس المصرية بعد الثمانية عشر يوما الأولى للثورة، وكأنها استهلكت كل أرصدة الطاقة الشعبية، فعاد الناس إلى بيوتهم ينتظرون عائد الثورة، وصار السؤال الجوهري عائد الثورة لمن وبمن؟ حركة المجتمعات لا يصنعها المجهول، ولا تؤول إلى العدم، فهي طاقة خرجت من مكمنها، ولا تنتهي دون أن تصل إلى حالة الاستقرار. التفكك والتفتت إلى جزيئات للحركة الشعبية في مصر ليست حالة انتحار جماعي للإرادة الشعبية التي تجلت في الأيام الأولى للثورة، لم يكن التفتت عاملا ذاتيا بقدر تضافر جهود القنص والقرصنة والإجهاض التي جرى ممارستها خلال الفترة الانتقالية، وتجلت الإرادة الشعبية في استمرار حالة المقاومة طوال الفترة الانتقالية وقدم فيها الشعب الشهداء وكان خطر الدم يحوم كالعنقاء فوق الرؤوس كلما تجاوزناه عاد من جديد يحاول اقتلاع الثورة كمفهوم من القاموس، وحصار نتائجها، والحيلولة دون استعادة أي إمكانية لتكرار الحركة الشعبية التي أسقطت رأس النظام السابق. لم يكن اغتراب الثورة لفظا ووعيا ومنهاجا هو السمة الوحيدة للوعي المصري قبل يناير 2011، بل كانت هناك هجمة مستمرة على الهوية الوطنية والقومية، وكلما كانت تضعف الدولة والمجتمع، كانت الجهالة الفكرية تتفاقم حتى تماسك دخانها الأسود ليصنع شرنقة صلبة تحيط بالوعي الوطني. انتقلنا من قتل الأفكار إلى حالة الفتن المتتالية، وكان أقصى وأقسى ما يمكن أن يعاني منه المجتمع هو الفتنة الطائفية وتقسيم المجتمع وفقا للديانة، وأنتجوا صورا جديدة للفتن، فأنتجوا فتنة الأجيال وفتنة التاريخ وأن الثورة تنسخ ما قبلها، وفتنة الهوية وكأن مصر طفل سفاح وجد على قارعة الطريق ومجهول النسب، وجرى تقسيم مجحف للمجتمع بين مسلم وغير مسلم، وليس غير المسلم هم أصحاب الديانات الأخرى ولكن غير المسلم هو أي مصري خارج التنظيمات الدينية ولم يقسم لهم قسم الولاء. الصورة الجديدة للفتنة هي الفتنة في الدين ذاته، والانحراف به على ألسنة ترتدي مسوح رجال الدين وتنطلق على الفضائيات العربية، لا تمس الحياة السياسية كما كانت في البدايات، ولا تدعو إلى أحزابهم، ولا تهاجم من خالفهم بأنه علماني كافر، ولكنها تنتج فتاوى تبيح اللواط وزواج القاصرات والاستعمال الشاذ لهن، وتستخدم ألفاظا يعف الملحد عن استخدامها، بل إن إحدى الفتاوى أباحت لواط المجاهدين كضرورة تبيح المحظور لإعداد المجاهد للعمليات الاستشهادية!؟ خطر داهم لو صنع بغير لغة الضاد وبمسوح رجال الدين، لما انقطعت حفلات الطبل والزمر والمظاهرات تصف من أتى بها بالصهيونية والإلحاد والتقول على الدين الإسلامي الحنيف، ولكنها عندما تخرج منهم على الفضائيات العربية فهي أمر حمال أوجه؟! اتهموا من كان خارج تنظيماتهم بالعلمانية، والعلمانية عندهم هي الكفر والشذوذ والزواج المثلي، ولم يحاول أحد التصدي لما يجري ويدور وتتناقله شبكة الإنترنت وأفلام الفيديو المنتشرة عليها، فمن لم يشاهد الفتاوى على الفضائيات تصل إليه في منزله وعلى شاشات الكمبيوتر والتليفونات بمقاطع فيديو عندما تسمعها تشعر بالخطر الداهم وكيف يجري هذا على ألسنة هؤلاء؟ ولماذا الآن؟ ولماذا لم يجد من يتصدى له؟ هل للإنسان العربي أن ينظر إلى الكون والمجرات والأنجم والكواكب ويرى اتساع هذا الكون الذي يعجز العلم حتى الآن أن يجد وحدة قياس لقياس اتساع المجرات والمسافات بينها. هل للإنسان العربي أن يدرك معنى الزمن، واليوم الإلهي بألف عام مما نحسب، ويوم القيامة بخمسين ألف عام مما يعد البشر. هل للإنسان العربي أن ينظر ما تخرجه الأرض من ثروة طبيعية، هل جاءنا رزق الطاقة دون جهد منا فنتوقف عن إعمار الأرض بالعلم ونكتفي بالإهلاك والاستهلاك. هل للإنسان العربي أن يدرك أن الله علم آدم الأسماء، منح الله الإنسان المعرفة، وكلفه بإعمار الأرض.