15 سبتمبر 2025
تسجيليمكث نصّ الجليلة بنت مرّة في ذاكرة المتون والكتب المدرسية وقتاً، لكن النصوص المندثرة تعتريها بين الحين نوبات حياة عابرة، إذ تستبطن حاضراً مثيلاً، وتعين قراء اللحظة على استبصار القادم، فما كان يجري في ديار بني بكر قبل ألفي سنة مازال يجري في منازل مقدّرة، في أرضٍ ذات زرع ونهر، تتصارع فوقها النظريات، وتتجاور، ولم تقتلع شجرةٌ شجرةً، وها هي الأرض اليوم خزّان بشري يمور بمائة مليون نسمة، يمتلكون جميعاً مظلومياتهم التي تبيح طمس الآخر. تلك هي العراق والشام التي عرفت ومازالت نماذج من الحروب الأهلية فتضيف كلّ منها سبباً جديداً للتمايز. كان ذاك الحيّ من العرب قد استقرّ شمال الجزيرة ببأس فرسانه الذين كانوا حراساً للقوافل العابرة في ظلّ ازدهار تجاري امتدّت آثاره من الصين إلى أوربا في إطار ما يسمّى:" طريق الحرير". وكانوا قد جمعتهم المطامح في الاستقلال عن ملوك اليمن، وبعد أن تمّ لهم الأمر، بدأت آثار التنافس، واقتسام الثروة، حتى تمكّنت منهم الحرب الأهلية مدّة طويلة، والتهمت الكثير من الأرواح والمال بعدما قتل جساس البكري الملك كليباً التغلبي، وكانت الجليلة بنت مرة أخت جساس زوج كليبٍ، فقالت لها نساء الحي لما اجتمعن للمأتم :"اخرجي عن مأتمنا، فأنت أخت واترنا وشقيقة قاتلنا". فخرجت، فقال لها أبوها:" ما وراءك يا جليلة؟ فقالت: ثكل العدد، وحزن الأبد، وفقد خليلٍ، وقتل أخٍ عن قليل،وبين ذلك غرس الأحقاد، وتفتت الأكباد"، ثمّ أنشدت: يا بنة الأقوام إن لمت فلا تعجلي باللوم حتى تسألي فإذا أنت تبينت الذي يوجب اللوم فلومي واعذلي إن تكن أخت امرئٍ ليمت على جزعٍ منها عليه فافعلي فعل جساس على ضني به قاطعٌ ظهري ومدنٍ أجلي لو بعين فقئت عينٌ سوى أختها وانفقأت لم أحفـــــل تحمل العين قذى العين كماتحمل الأم أذى ما تفتلـــي إننّـي قاتلــــــــةٌ مقتولــــــةٌ فلعلّ الله أن يرتـــــــاح لي يا قتيلاً قوّض الدهر بـــــه سقف بيتي جميعاً من عل هدم البيت الذي استحدثته وبدا في هدم بيتي الأول مسني فقد كليبٍ بلظًى من ورائي ولظًى مستقبلي ليس من يبكي ليومين كمن إنما يبكي ليوم ينجلي درك الثائر شافيه وفي دركي ثأري ثكل المثكل وفي الصراع الدائر في سوريّة الذي آل إلى نذر حربٍ طائفية، وانغمس كثير من المنهمكين فيه بتأويل الثورة تأويلاً طائفياً، سبّب شرخاً كبيراً بين مكوّنات الجسم السوري ، فثمة أكثر من جليلة سورية معاصرة تنظر في قتل أخيها على يد زوجها، فقد حدثت زيجات مصاهرة كثيرة بين أبناء الإثنيات الدينية و العرقية، ذهب أبناؤها إلى خياراتٍ مكلفة ومرهقة، وهناك تظل مراكبهم بين ضفتين لاتطمئنان إلى عابرين طالما آنسوا المحبة في كلا الضفتين. إنه حزن الأبد.