14 سبتمبر 2025
تسجيلكانت تجربة مثيرة؛ خططنا لها مبكراً، وعلى مدار عام دراسي كان طلابي قد عرفوا "امرؤ القيس وزهير بن أبي سلمى وحسان بن ثابت وجرير والفرزدق وأبو تمام والبحتري والمتنبي وأبو فراس الحمداني وأبو العلاء المعري وأحمد شوقي وأبو القاسم الشابي وعبدالله البردوني ومحمد إقبال..وغيرهم".كنت آخذ قرابة خمس دقائق من أوّل الحصة، أقرأ فيها عليهم بيتاً ممّا أستجيده من عيون الشعر العربي، مطالباً إياهم باستظهاره، وكانت التجربة الوليدة تتّسع وتكبر، فخصصنا دفاتر تكون أمالي نعلّق فيها على البيت بشرحٍ أو إعرابٍ أو طرفة بلاغية، كانت أشبه بتحليل في الأبيات الأخيرة، وبخاصة بعد أن تمثلوا معايير عام كامل، بل أضفنا إليه شيئاً من العروض بعد أن تعرفوا البسيط والوافر والطويل.أظنها تجربة جديرة بالذكر، والمناقشة من قبل أهل الشأن التربويّ، فقد كان الشعر مادة التعليم الأولى في العصور المتقدمة، ولهذا كانت المفضليات والحماسات والمنتخبات، التي انتقت من العربية ما يصلح أن يكون مادة يتربّى عليها الجيل. فقد كان الشعر سامر الحيَّ وشاهد الحكمة وبياناً ساحراً بحسب الحديث الشريف:"إن من البيانِ لسحراً"، ومنهج تعليم بحسب الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "مُرْ مَن قِبَلك بتعلم الشعر فإنه يدلّ على معالي الأخلاق، وصواب الرأي، ومعرفة الأنساب"، وكان الشعر مرجعاً وعوناً في شرح البيان الإلهي الذي تنزل بلسان عربي، كما ذكر ابن عباس رضي الله عنهما: "إذا قرأتم شيئاً من كتاب الله ولم تعرفوه فابتغوه في الشعر فإن الشعر ديوان العرب".ولم يكن بعيداً عن المسجد، إذ جاء عن جابر بن سمرة رضي الله عنه "جالستُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون الأشعار في المسجد وأشياء من أمر الجاهلية، فربما تبسّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم". كانت الاحتفالية الصغيرة إحدى أهم المخرجات التي ترجمت حبّ طلابنا للغتهم وأمّتهم، كان طلابنا يتنافسون لحفظ الأبيات ويتمثلونها في دفاترهم، ويتسابقون في طرح الأفكار في أن تقدّم عرضاً شبه مسرحي لقراءة الأبيات التي نالت استحسان الحاضرين.. وفي مدرستي التي تهتم بالفنون كطريقة للتعليم كان الزملاء المعلمون والفنانون في الرسم والخط العربي والمسرح والموسيقى يقدّمون الاقتراحات المفيدة والتشجيع المستمرّ، لإنجاح احتفالية "الشعر ديوان العرب"، وقد كان.التعليم في ذاكرة المتعلمين حكايات وقصص، ولعلّ ما بقي ممّا تعلمنا تلك النصوص الشعرية الخالدة، التي استظهرناها غير مرّة في مناسبات استدعتها، ولعلّ من سبقونا قد حفظوا هذه الجمهرة، فلا يكاد أحدهم يستذكر :"الخيل والليل.. حتى يكمل رفيقه والبيداء تعرفني.."، ولا يكاد أحدهم يترنّم :"إذا الشعب يوماً أراد الحياة.. حتى يردّ عليه جاره فلا بدّ أن يستجيب القدر".كان الشعر العربي مادة سمر العربيّ ومازال، فالمهتمون بالشعر اليوم أيضاً لهم مفضلياتهم الحديثة في شعر نزار وعبدالصبور والسياب وغيرهم.. ولهذا يجب أن نهذي بالشعر حتى وإن لم يعد ديوان العرب.