12 سبتمبر 2025
تسجيلغالباً ما تمر الحياة الزوجية ببعض التعرجات أو المنعرجات، وهذا أمر طبيعي في بنيان أي أسرة، لا يسلم بيت من ذلك، لكن الآفة أحيانا لا تكمن في المشكلة بل في ضعف المعالجات من ولي الأمر الغائب أو الحاضر حضورا غائبا! والذي يحسب أن غياب الشكوى أو التدين أو العقل أو الحلم كفيل وحده أن يعالج كل خطأ ويسد كل خلل، ولا يدري المسكين أن الحياة الزوجية عند حدوث المشاكل وغيابه تمر بثلاث مراحل: التلميح ثم الانتقال إلى التصريح، ثم الوصول إلى الخطوة الأخيرة التي يستفيق الأهلون فيها على فجيعة وطامة يندم الجميع على وقعها ويعيشون بين (لو، وليت). إن ولي الأمر العاقل لا ينتظر تلميح الزوج بل يسارع قبل التلميح إلى السؤال والتتبع والرصد ومعالجة ما يمكن أن يكون في الغد مشكلة، وفائدة هذا التوجه أن المعالجات فيه تكون آمنة لأنها سرية بين الوالد وولده، ومضمونة لأنها في بدايتها، وغياب هذا التوجه يجعل الأمر ينتقل إلى التلميح الذي يأخذ مرحلة أعلى تقتضي وجوب إشعار الزوج وترضيته، فالمعالجة ستكون سرية كما الحالة الأولى لكن تزيد عنها ضرورة إخبار الزوج بالتدخل فإذا لم يفهم المعني بالأمر تلميح الزوج وصل الحال إلى التصريح وهنا تتطور المعالجات فلابد من الوقوف بحسم، ولا بديل عن العلنية في الطرح، والوعود -عند ثبوت الخطأ- بعدم التكرار، وقد يصحب ذلك منه ترضية واعتذارا، وهذا الأمر على صعوبته أهون من الخطوة الأخيرة والتي لا يصلح معها اعتذار ولا ترقيع! والجميع فيها خاسر. الناظر في القرآن الكريم يلحظ أهمية دور الوالد في قول الله تعالى (فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها) فدوره ربما كان الضمان الأخير للحفاظ على البيت إذا أصابه ما يضعف أركانه، أو يصدع أوتاده . في صحيح البخاري حديث يظهر تفاعل ولي الأمر الذي يفهم دوره جيدا، والذي يحذر الخطوة الأخيرة فيقدم الخطوة الأولى، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث طويل شيق :" .....وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الأَنْصَارِ، فَصِحْتُ عَلَى امْرَأَتِي، فَرَاجَعَتْنِي، فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي، فَقَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ، فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ، فَأَفْزَعَنِي! فَقُلْتُ: خَابَتْ مَنْ فَعَلَ مِنْهُنَّ بِعَظِيمٍ، ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ: أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اليَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: خَابَتْ وَخَسِرَتْ أَفَتَأْمَنُ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ لِغَضَبِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَهْلِكِينَ، لاَ تَسْتَكْثِرِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَكِ، وَلاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " في هذا الموقف عدة ملاحظات ينبغي أن يسجلها الآباء ليدركوا أن هذا الطريق الذي سلكه الفاروق أحد الواجبات عليهم تجاه أبنائهم، وأن هذا السير من أجل القربات إلى الله تعالى القائل:( لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ) وإذا كانت القاعدة أن قضاء حاجات العباد أحب عند الله من اعتكاف المسلم في مسجد رسول الله شهرا مع ما في هذا الاعتكاف من إحياء الليل، وقراءة القرآن، والبعد عن الفتن، تبين له فضل صنيعه، وقد أحسن من قال: إن الفضائل كلها لو حُصِّلت ****** رجعت بجملتها إلى شيئين تعظيم ذات الله جل جلاله ******** والسعي في إصلاح ذات البين عمر الفاروق سجل دور ولي الأمر المعول عليه بعد الله في دواء الجرح ورتق الفتق، وقد وضع في كلمات بسيطة منهاجا قويما لأولياء الأمور في التعامل مع أزواج بناتهن نحدد معالمه في النقاط التالية : 1- الرصد الدقيق: حين أنكر عمر على زوجه مراجعته وأخبرته أن هذا صنيع نساء كان الرد سريعا منه: أو تفعل حفصة ذلك ؟ يسأل عن حال ابنته، ثم ذهب إليها ليتأكد ولم يمنعه مشاركة جارات حفصة في الفعل من التنبيه على خطورته؛ لأنه يدرك أنه مسؤول، ويرى أن تتبع المشاكل ووأدها في مهدها أصلح للبيت وأقوم. عمر المتابع لأحوال ابنته دائم السؤال عنها وعن معيشتها إيمانا منه بأن حصر الداء أهون إذا كان في بدايته، وهو عاقل لا يريد أن تكون المعالجات علنية يشترك فيها الآخرون، ويدرك أن هذه الخطوة أمان له من الخطوات التي تليها. لم يكن عمر وحده يسير على هذا المنهج بل هذا ديدن سلف الأمة ومنهم سعيد بن المسيب الذي رفض أن يزوج ابنته من ولد عبد الملك بن مروان وزوجها من فقير صالح، وكان من عادة سعيد بعد انتهاء الدرس أن يتتبع حال ابنته، يقول ابن وداعة زوج ابنته: " لا يكلمني سعيد إلا إذا تقوض أهل المجلس فإذا لم يبق غيري، قال: ما حال ذلك الإنسان (يعني ابنته) قلت: خيرا يا أبا محمد على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا . التتبع يجنب كلا الطرفين مرارة الشكوى، لأن الشكوى تعد المنعرج المائل الأول في الحياة الزوجية، فكل طرف متحفز أن يخرج أسوأ ما في زوجه، وإذا لم تكن المعالجات مرضية فإن الحياة تسير بعدها على عرج قاتل . ولا يُصلح هذا العرج: التغافل أو ترك الأمور للزمن كما يتوهم بعض المصلحين. 2- المواجهة بلا تجمل: المنطقة الرمادية في تحديد المشكلة ومواجهتها أمر مضر، لأنه أحيانا ما يتسبب في شرعنة الخطأ، وتحسين القبيح، ولذلك حين علم عمر بالحدث وضع إبهامه على الخلل مباشرة مصرحا لها بأن مكانتها دون مكانة أختها عائشة، وأن للأخيرة من الحظوة ما ليس لها: لاَ يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ هِيَ أَوْضَأَ مِنْكِ، وَأَحَبَّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" قال عمر الأب لابنته هذا الكلام على صعوبته لأنه يعلم أن مرارة الدواء أرحم من معاناة الداء . ثم حدثها عن مكانة زوجها وقدره: أأمنت ألا يغضب الله لغضب رسوله فتهلكي! في إشارة إلى أن المرأة بحكم فطرتها تكفر العشير، وحسنات زوجها تتغافل عنها، وتذكيرها بذلك أمر يردها عن غيها، وهذا الوضوح والمكاشفة منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم فعن حُصين بن محصن: " أن عمة له أتت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة، فلما فرغت، قال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أذات زوج أنتِ)؟ قالت: نعم، قال: (فأين أنت منه) قالت: ما آلوه إلا ما عجزت عنه، قال: انظري أين أنت منه؛ فإنه جنتك ونارك". 3- التنازل والتحمل: عرض عمر على ابنته أن يتحمل بعض واجبات الزوج، وأمرها ألا تستكثر من الطلبات وأن يعوضها هو من ماله حتى تعبر سفينة الحياة سالمة، فعل عمر ذلك دون أن يخبر الزوج في إشارة منه إلى أن دور الوالد لا يتوقف عند النصح بل قد يتعدى ذلك عند الاستطاعة إلى البذل والتحمل: لاَ تَسْتَكْثِرِي عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلاَ تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ، وَلاَ تَهْجُرِيهِ، وَاسْأَلِينِي مَا بَدَا لَكِ. هي رسالة إلى كل ولي أمر: الرصد والمواجهة والتحمل بنيان، والتغافل والتجاهل والمعالجة الخاطئة هدم.