13 سبتمبر 2025

تسجيل

العدل بين النظريّة والتطبيق

02 مايو 2012

إن المتأمّل للمُثل الإنسانية يجد أنها تفقد قيمتها ما لم تجد مَن ينتمى لها بالتطبيق، وهذا ما يجده الباحث في التراث الإسلامي، ومن أظهر الأمثلة التطبيقيّة في القرآن على اعتبار العدل في الحكم على الأغيار: نزول آية من كتاب الله عز وجل تبرئ يهودياً من افتراء مسلم عليه، حين همّ النبي صلى الله عليه وسلم، أن يحكم له بما توافر من أدّلة تدعمه على حساب اليهودي، فأنزل الله تعالى قوله: {إنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}. وسبب نزولها أن طعمة بن أبيْرق سرق درعًا في جرابٍ فيه دقيقٌ لقتادة بن النعمان، وخبأها عند يهودي، فحلف طعمة: ما لي بها علم، فاتبعوا أثر الدقيق إلى دار اليهودي، فقال اليهودي: دفعها إليّ طعمة؛ فلما همَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بالقضاء في هذه المسألة: نزلت الآيات الكريمة. نزلت الآيات مبرئة ساحة اليهودي مما تم تلفيقه من بعض المغرضين، وفضحت الخيانة والتزوير دون مراعاة للجاني وكونه مسلما، ووجهت النبي صلى الله عليه وسلم أن يحْذَر من الدفاع عنهم من حيث يظنهم مظلومين. وهذا هو العدل الذي أراده الإسلام، لا يتستّر على منحرف أو مخطئ، أو يتساهل في الحكم عليه لكونه منتمياً إليه، ولا يظلم بريئاً أو يجور عليه لاختلاف دينه، إنما أقام الإسلام العدل في الحكم على الأغيار بقانون موحّد، غايته إقامة المجتمع الصالح في الأرض، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يستغفر مما كاد أن يقع فيه، يقول الإمام البغوي: "واستغفر الله ممّا هممتَ من معاقبة اليهودي، وقال مقاتل: واستغفر الله من جِدَالِكَ عن طعمة {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}، وقيل: هو أمر بالاستغفار على سبيل التسبيح، من غير ذنب أو قصد توبة، كما يقول الرجل: "استغفر الله". وهذا الموقف وغيره الكثير يصلح كأداة في يد كلِّ داعية وهو يتعرّض لمدعوين من أهل الكتاب وغيرهم. وقد كان النبي، صلى الله عليه وسلم، صارما في إقامة العدل فلا شفاعة لأحد مهما كانت منزلته، وحديث المرأة المخزوميّة من بنى مخزوم ذوي الشرف والمكانة التي ارتكبت جريمة السرقة وهى جريمة لها حدّها، خير شاهد على ذلك، فقد اجتهد أهلها في إرسال مَن يشفع لها وأرسلوا أسامة بن زيد، وكان جواب النبي، صلى الله عليه وسلم: "أتشفع في حدٍّ من حدود الله" ثم قام فخطب، قال: "يا أيها الناس، إنما ضلّ مَن قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطع محمد يدها"، فلا محاباة على حساب الحقيقة ولا جور، وهو في حقيقته التزام بالحق مع القريب والبعيد، فهو معترف بالخطأ إذا زلت به قدمه غير جاحد ولا مكابر. ولا مبرّر لخطئه بخطأ آخر، أو بإلقاء التهمة على غيره، وهو يقول الحق ولو كان مرّاً، ويقوم لله شهيداً بالقسط ولو على نفسه أو الوالدين والأقربين، ويعدل مع العدو عدله مع الصديق، لا يعرف التحيّز، ولا يعرف المحاباة.