14 سبتمبر 2025
تسجيليبدو تعبير الاغتراب داخل الوطن هو التعبير الدقيق لوصف حالة التباين بين ما يجري وبين حالة الأمل التي تجلت بشائرها في وقائع الثورة العربية المعاصرة في تونس ومصر، ولم ينجح ما تبعها من وقائع دامية أو تداع يبعث على الريبة وتمييز من جديد بين معنى الثورة ومعنى الدماء التي قد تودي باحتياج الشعب إلى التغيير وهدفه لتحقيق حياة كريمة إلى أبواب جديدة للانشطار والتجزئة والتفتيت للمكونات الاجتماعية وللأقطار العربية ذاتها، لم ينجح هذا في حصار جذوة الشباب الجديد والذي تجاوز القديم بمكوناته السلوكية ومفاهيم الهزيمة والانصياع التي يمكنها أن تكون قد استحوذت على أغلب القديم. وقد يكون تعبير اغتراب اللغة، بمعنى أنه الاعتقاد بأن نطق الكلمة يعادل التجربة، هو مرافق وباعث على الإحساس بالاغتراب داخل الوطن. ما زالت تجربة الإشراف على انتخابات نقابة المهندسين والتي تستحوذ من يومي 18 ساعة غير زمن الانتقال، أيضاً تنتقل بي بين مواقف وألوان من البشر كما لو أننا اقتطعنا شريحة رأسية داخل المجتمع وندرس فيها ما يجري في المجتمع بأثره، مازالت هذه "المهمة ـ التجربة" تطرح كل يوم تأكيدا أن الحراسة على النقابات المهنية كانت لازمة ومتوافقة ومماثلة في الأثر كما كانت الحراسة على الوطن ككل، ولم يكن الفساد وسرطنة المجتمع وانهيار الأداء والانتماء وتغيير السلوك إلى الأدنى بأمر يحدث في قطاع ولا يتم في قطاع دون الآخر، ولكنه كان منهج تعامل مع المجتمع ككل وأسلوب حكم عجز عن التواصل مع الشعب فاتخذ من الإفساد وتغليب المصالح الخاصة سبيلا لخلق طبقة معاونة وعازلة بينه وبين المجتمع. الغريب أن الفترة الانتقالية داخل نقابة المهندسين تماثل الفترة الانتقالية داخل الوطن، بذات البدايات وذات الأداءات، وهو ما يعني غياب الرؤية والقبول بأداءات لا تبني التغيير على أسس راسخة، مما يعني الاغتراب أيضاً لمن تولوا الأمر عن حقائق ومفاهيم مبرر وجودهم في إدارة الفترة الانتقالية، وكأن لعنة "البشري" بما أطلقوا عليه الصناديق تطارد كل مطلب للتغيير أينما وجد، وصار الثأر من ميراث النهب هو الثقب الأسود الذي يستنفذ القدرات والعقل والتصور، وكأن صورة التحكم أو محاولته تنتقل أيضاً إلى الشريحة المهنية، وتماثل وجود الفلول أن قبلنا بهذا اللفظ تعبيرا عن أركان النظام السابق بين قوي الشعب، كأنهم تعبيرا آخر عن قديم معاد لا يريد أن يستسلم بل يحاول استعادة سيطرته على الواقع الجديد، والغريب أن الانشطار كما نال السياسيون في المجتمع، فقد نالهم أيضا داخل النقابات وأسقطوا من ذاكرتهم علاقة جمعت بينهم وهم يخوضون معركة إنهاء الحراسة على نقابتهم وصار التمايز والانفصال هو السمة الغالبة والدافعة إلى التناحر. وتبدو الأجهزة الوظيفية داخل هذه المنشآت مماثلة لجهاز الدولة البيروقراطي، لا يرقى إلى مستوى ما يتولاه من مسؤوليات، قدرة وأداء، ولا هو بقابل لتغيير أنماط السلوك إلى الأفضل، فيصبح هو المشكلة التي تستنفذ جهد الأداء بآلياته، وعدم الوعي بضرورة تغييره بما يتوافق والمهام الملقاة علية، والتي يمثل تحقيقها الأساس لإجراء التغيير. كلما اكتشفنا أن تجاوزا قد جرى بالإهمال أو بعدم التكليف به خلال فترة الحراسة تجاه الإجراءات النمطية للعملية الانتخابية، ردد الكل سواء كانوا من الفلول أو من الشباب المتطوع للأداء، قول: لم يكن الحارس يقصد إجراء الانتخابات ولكن الدعوة إلى فتح باب الترشيح الانتخابات كانت "مناورة" لا تعني دلالة عن يقين بوجوب نقل السلطة إلى مجلس منتخب للنقابة، وصار الأداء بذات الأدوات البشرية والآليات المتاحة نوع من ترقيع ثوب ملئ بالثقوب، وهي ذات الحالة داخل الوطن بأسره. وبديلا عن مهمة ومسؤوليات إجرائية وفق القانون واللوائح فقط، صارت المهمة إبحار في بحر الرمال المتحركة، إبحارا هو في ذاته مغامرة، حددوا لها زمنا قاطعا وصموا الأذان عن احتياجاتها من وقت وترتيب وقرارات، وانغمسوا في روايات وأداء يحدث من الضجيج ويحمل من الأسماء غير ما ينجز من مهام. يصطدم الأمل بالواقع الذي يحول دون تحققه بالعجز عن وضع تصور أساسي للمهام، الأمر الذي أدى إلى تضخم المسؤولية، ودفع بالأداء إلى البحث في التفاصيل الدقيقة، بل وترميمها لعبور بحر الرمال المتحركة. هكذا ساد الاغتراب مناحي الوطن كيانا ومؤسسات، وصارت المسؤولية تتجاوز حد تحقيق أهداف لها بريقها، إلى مسؤولية أخرى تحول دون الغرق في أوهام بحر الرمال المتحركة. قد يدعي البعض أن هذه الرؤية جاءت ابنة ثقافة الشك ونظرية المؤامرة، ولكن عندما نري أن هذه الرؤية للأحداث يجري تداولها بين شباب دون الثلاثين، ندرك أننا أمام زهور تتفتح تقبل بالتحدي تدركه بالوعي والقدرة على سبر أغوار التصرفات والإجراءات وحتى الكلام الذي يحمل من الهدف الشكل وليس الموضوع والمعني، وغير أنها تقبل بالتحدي، لتحقيق الهدف بأداء أكثر واحتشاد أكبر، كما ونوعا، بينما ينغمس الجيل السابق عليهم في مجرد المهام الانتخابية دون ربطها ببناء أسس متينة تضمن تحقيق مهمة الانتخابات في صورتها الأمثل، وينقسم الجيل السابق بين ساع إلى المنصب، وبين ساع إلى إيقاف العملية الانتخابية بأحكام قضائية، رفاق الأمس فقدوا قدرة الحوار والتفاهم، فمارسوا أداء الخصومة التي أدت إلى تجميد النقابة 16 عاما خارج نطاق خدمة المهندسين أصحاب الحق الأصيل فيها، وخارج مهمتها الوطنية في كونها الاستشاري الأول للدولة في مشروعاتها المهدرة بأيد فسدت ومازالت فاسدة. الموقف داخل الوطن تجاوز الاحتكام إلى القضاء إلى الاقتتال بين القضاة والمحامين، وبلغ الأمر أن طلقات من الرصاص انطلقت بديلا لحوار العقل، وكأننا بصدد هدم المعبد علي رؤؤسنا، وكأن كل منا قد بلغت به نزواته حد إهدار قيمته الذاتية وقيمة الوطن الذي يحتاج جهدا متصلا ومترابطا، سعيا إلى انتصار لوهم تملكه أن هناك فرصة لقنص الوطن والفرصة المتاحة لإحداث التغيير، حتى التف على جثة الوطن ينهشها وينافس باقي الوحوش المفترسة ليس كما يحلوا للبعض أن يسميه اقتسام التورتة بل أقرب إلى التحول لنهش جسد ملقى في عرض الطريق كما تصور الأفلام مشهد آكلي اللحوم يرقصون حول جسد مقيد لينتهوا به طعاما لهم. أن تشهد مصر وقائع البلطجة أمر قد نقبل به، ولكن أن نجد صراعا بين جناحي العدالة وبالرصاص بديلا للكلمة فهذا دلالة غياب الوعي وعدم إدراك المسؤولية الملقاة على عاتق الجميع، وأولهم القضاء الذي يتحمل مسؤولية الفصل بين الثورة والنظام السابق، ويتحمل نفر من المحامين مسؤولية التعبير عن إرادة الثورة في مواجهة محامي القتلة الذين يدعون أنهم يحاولون تحقيق العدالة. مركب يثقبونه بأعصاب باردة، وليسوا ممن أتاهم الله علما من لدنه. لم يعد هناك وقت للحديث عما يحدث في الانتخابات النيابية، ولكن من الواضح للعيان أنها السبيل لاستعادة النظام السابق لسلطته، عبر استخدام منحرف لكلمة الديمقراطية، وقعت في براثنه كافة الأطراف، وصار الجميع يضربون بمجاديفهم للإبحار عكس رياح التغيير التي دفع الشعب ثمنها دماء أبنائه. عكس هذا الثقب الأسود الذي صنعه التباطؤ والتآمر معا، وكانت آلياته نخب وأحزاب وجماعات، عكس ذلك تبرز وبهدوء شمس الحق متمثلة في ذلك اليقين الذي يجمع شبابا يملك جسارة الإصرار على صنع مستقبل جديد، يملك رؤية، يدير مهامه، يتحاور ولا يميز بينه جنس ولا دين، يحمل الهوية المصرية الخالدة ولديه قدرة التعبير عنها، بل إنه لا يحده طاغوت ولا يخاف الموت ويقبلها شهادة في سبيل وطنه. هذا الجيل يحتاج أن يجد بيئة تستطيع أن تسمع له، دون كبر ولا إحساس بالتمايز عنه، يحتاج من الجميع أن يرتقي إلى مستوى يقينه ووعيه وأمله، لأنه معهم يستطيع أن يختصر الزمن، وبدونهم سيصل إلى هدفه مهما طال به الزمن، فالأولى بنا أن نكون معه في ذات المركب لنتجاوز الطوفان، ولبناء دولة عصرية شابة قادرة أن تواجه التحديات المحيطة والتي تقترب منا كما حبل الوريد، وصارت إرادة الوطنية المصرية مطالبة بالتصالح مع النفس لتستطيع مواجهة التحديات الخارجية. واقع مرير كما الحنضل، وأمل مشرق يواجهه، ومسؤوليات ملقاة على الطريق تبحث رجالها، فهل آن لنا أن نبلغ بالثورة سن الرشد، ندركها وننجز مهامها، ونبتعد بها عن لعبة القتل والإفساد؟