16 سبتمبر 2025
تسجيلمن العوامل المهمة في تدريب الذاكرة كما أعتقد، مسألة الاغتراب، أي أن يفارق المبدع وطنه لفترة طويلة، هنا تأتي مسألة الحنين القوي للوطن، مما يوقد الذاكرة بشدة، يجعلها تستدعي كل لحظة عاشها المبدع في الوطن، حتى لو كانت بلا معنى، مثل أن يتذكر طفولته في الحواري والأزقة، وسط أصدقاء يستدعي ملامحهم أيضا، يتذكر حبه الأول لفتاة الجيران، ويتذكر أي سلوى عابرة يمكن أن تطفئ الحنين، هنا يعمل الكاتب بلا وعي منه، في تدريب ذاكرته باستمرار، وبالتالي يحتفظ بمفتاحه السحري، جديدا ولامعا، وجيدا لاستخدامه في أي كتابة يكتبها. لقد تعرض ماركيز لمسألة الحنين هذه في روايته: الحب في زمن الكوليرا، ووصفها بأنها تملك أحاييل شرسة ومتنوعة، لجر المغترب إلى وطنه، وأضيف لوصف ماركيز، أنها تملك أيضا مزيلا للصدأ عن الذاكرة، ورواية مثل موسم الهجرة للشمال للطيب صالح، التي كتبها أثناء اغترابه الطويل في لندن، الذي استمر حتى وفاته، أعتقد جازما أن الحنين أثر فيها بشكل أو بآخر، وأوقد ذاكرة مبدعها لتخرج هكذا رواية خالدة، وروايته عرس الزين أيضا، كانت عن شخصية عاصرها صغيرا، وكتب تفاصيلها كلها في مغتربه البعيد. في رواية لي اسمها العطر الفرنسي، كتبت عن مسألة تدريب الذاكرة لدى بطل الرواية على جرجار، الذي كان يقاوم الشيخوخة بذلك التدريب اليومي، كتبت أحداثا تذكرها أثناء انهماكه في تدريب ذاكرته مثل زجاجة عطر الريفدور التي سقطت من رف في بيت أسرته وانكسرت، مثل شاي سقطت عليه ذبابة ذات مساء، وكنت بلا وعي مني، أكتب بعض الأحداث التي أتذكرها من طفولتي شخصيا. والذين قرأوا رواية: قصة عن الحب والظلام، تلك القصة المدهشة للإسرائيلي عاموس عوز، لا بد يستغربون من تلك الأصداء المتلاحقة من زمن بعيد، لطفل جاء إلى أرض الميعاد بصحبة أهله، وعاش طفولة غريبة، في وطن أقنعوه بأنه وطنه، وهو يرى أهل الوطن الحقيقيين، منفيين في وطنهم. أعتقد أن ذلك كان وليد ذاكرة مشعة، دربها عاموس على أن تشع بتلك العنصرية، وتلتقط كل ما كان من شأنه أن ينتج أدبا مواليا تماما للمشروع الإسرائيلي الكبير.