17 سبتمبر 2025

تسجيل

المثقف الأعور

01 يوليو 2015

برز في عقابيل الربيع العربي، وبخاصة في بعض الدول التي تعاني ضعف اندماج اجتماعي مسبق، ظاهرة مثقف الطائفة أو الإثنية الذي يرى بعين واحدة، بعين مصلحة (ربْعِه) نازعاً عنه قشرة الحداثة المزعومة التي وسمت النخب العربية المثقفة لقرن تقريباً. كان أصدقاء الأمس يجلسون معاً في المقاهي، ويثنون على إبداعات بعضهم في المجالس، ومع تشعّب الأحداث، وتغيّر المواقف، تبيّن أن تحت كلّ بنطال حداثي (سروال) أو ثوب، وسرعان ما ثبت أن الحسابات مختلفة، فتبادل أصدقاء الأمس القذف والشتم والسباب، ولم يعد مثقف الأمس إلاّ مصالح (ربعه) فانتصارهم في غزوة مثار افتخار وقصائد عصماء وخطب بليغة، وهزيمتهم مثار جداول رثاء غزيرة الدمع، واللجوء إلى الحقل الإنساني للتنديد بالقتل والتشريد والتطهير العرقي والإبادة. مقابل ذلك لم يكتب كلمة أو يذرف دمعة على قتلى الطرف الآخر إذا انتصر (ربعه).يمتلك المثقف الأ0عور من القدرات ما يذكرنا بالعملاق سيكلوب في (الأوديسة) صاحب العين الواحدة، والذي يشكل خطراً على أوديس ورفاقه، قوة في الخطابة والتدليس واللحن في الحجة، وتبرير الأخطاء، كلّ هذا أمام جمهوره الممتلئ بعماء العاطفة، المستشيط المستنفر المهتاج، وبهذا يصدق المثل القديم " الأعور بين العميان مبصر" فهم يتبعونه مثل الغاوين يهيمون خلفه في أودية الدم والثأر والتطهير. مقابل الأعور الآخر قسيم المكان والماضي، ينتفي المشترك بينهما، ويُقصى المثقف البصير (العميل المتخاذل) إلى الهامش في أحسن الأحوال.كلّ الحروب الأهلية من إنجازات مثقفين نظروا إلى الأمر بعين واحدة، ودفعت شعوبهم ثمناً غالياً، ولعلّ المتبصّر في شؤون البلاد العربية يرى عودة الأمة إلى إنتاج خطاب الفتنة، وتعرض مفاهيم الأخوة والتضامن والشراكة الاجتماعية إلى هزّات حقيقية أمام اختبارات فرضتها ظروف الصراع بين الأنظمة والشعوب.ظلّ المثقف العربي غير بعيد عن: " وما أنا إلاّ من غزيّة" بالرغم من البدلة الإفرنجية ولثغة الحداثة، إلاّ أن غوايته ورشده مرهونان بغواية القبيلة ورشدها، وما خطاب الحداثة الذي يتبنّاه إلا (عدّة) يحملها حين الحاجة، ويضعها جانباً حين يعود إلى بيت القبيلة. وهكذا ظلّ المثقف الأعور يلعب بتشجيع مرتفع من جمهور أعمى يهتف للأهداف، ويشتم الحكم إن هزم لاعبه ذي العين الواحدة.