14 سبتمبر 2025
تسجيل(لن تتذكري أبداً أين التقيتك لأول مرة، لأنك لا تعرفين أصلا إنني التقيتك، وإنني تعمقت في لقائك، وصادقتك حد الجنون، وعرفت بحاسة قوية متمكنة، تفاصيلك، التي قد لا تعرفينها أنت نفسك، وأستطيع أن أدرسك، وأحاضر في سيرة تملكينها، وأملكها أكثر منك، لن تصدقي أنني كنت قريبا منك لأشهر طويلة، في لحظات مرضك التي ربما تكونين قد مرضته، ورونقك وانبهارك واستيائك، وغرورك، وكل ما يمكن أن يخصك. أتعذب في صمت، لدرجة أنني أحببت العذاب بشدة، سميته عطر أسماء، صنعت منه نكهات متعددة، رششتها في قلبي، وأصبح على مر الأيام، عطرا مفضلا، وبديعا، شمته الدنيا كلها، إلا أنت. وبرغم أن عشقي كان من البداية بلا أمل، فقد تركته ليكون هكذا، مستعرا نازفا، أنا الذي ألقي بحطب معاناته كلما خبا، من دون قدرة على تركه يموت. الزمان، إحدى ليالي الخميس، الليالي المفضلة لإقامة الأفراح في بلادنا، كما تعرفين، والمكان ناد شبه أرستقراطي عتيق، في وسط المدينة، قريبا من شاطئ البحر، يسمونه النادي الطلياني، اسمه استعماري صرف، لكني لم أر طليانا أو أشباه طليان، أو أي غرباء آخرين، يتحاومون فيه في المرات القليلة التي طرقته فيها، ولا أعرف سر تسميته تلك، وإن كانت ملاعب التنس وكرة اليد والسلة المهجورة بنجيلها اليابس، والأزهار المحترقة على جانبيها، وطريقة زخرفة الأبواب والنوافذ، وأردية عماله المنسقة إلى حد ما، تدل على أنه كان ذات يوم، إحدى بؤر الغرب المتعددة في بلادنا، وفارقته الأرواح القديمة، لتحل أرواحنا في المكان، تلبسه ثياب البيئة المحلية، ويستطيع واحد من أقاربي، مثل عبدالقادر علي، الذي يعمل موظفا عاديا في أحد البنوك الوطنية، ويسكن مع أهله، حيا شعبيا في طرف من أطراف المدينة، أن يستأجر مسرحه القديم، ليقيم حفل زفافه. لم أكن أيضا من هواة حفلات الزفاف الصاخبة على الإطلاق، أعتبرها مناسبات خرقاء يمكن اختصارها إلى أدنى حد، وإقامتها داخل بيت صغير بلا ترف ولا ضجيج، بحضور من يعنيهم أمرها، من أهل العروسين وجيرانهم، لكن المجتمع ليس في صفي، على الإطلاق، وكنت أذهب مضطرا لمشاركة من أعرفهم، وكان عبدالقادر من أقاربي اللصيقين، ومن ثم لا بد من مشاركته حتى النهاية. أتيت إلى الحفل متأنقا بحسب تصوري الشخصي، ولم أكن ضليعا في الأناقة، في أي فترة من فترات حياتي، أرتدي ملابس راعيت فيها أن تبدو ملابس معلم في مدرسة، ربما يصادفه أحد تلاميذه في ذلك الحفل، ولا يحس بأنه يصادفه خارج صفوف الدراسة، أو معامل الكيمياء، قميصي أبيض بلا خطوط إضافية، وسروالي أزرق فاتح، وعطري واحد من تلك العطور السائدة في السوق، أظنه كان عطر ماكسي أو جاكومو، أو ون مان شو، لا أذكر الآن بالتحديد، ولم تكن لدي حيلة لأجعل وجهي شديد الفرح، فقد كان وجها ممتلئا بتجاعيد، ورثتها من أسرة لم تورث سوى التجاعيد).