14 سبتمبر 2025
تسجيلإن الدخول إلى عالم الفن ونشر الضياء من الظل لا يحدث إلا ممن يقيمون أسسًا جديدة في بناء الحضارة الإنسانية. غير أن علاقة الفنان جاسم زيني، رحمه الله، ببيئته وفنه كظاهرة إنسانية في التجارب التي شكلت أفقا متسعًا من إبداع مستحق لهذا الفنان لكونه الرائد الأول بمثابة نقطة الارتقاء الفكري والبصري في مجريات الساحة الفنية القطرية المعاصرة التي تشهد على سر الصمت، وبما يذكر بقول أندريه مالرو "المنظر لا يتكلم، الذي يتكلم هو الصمت"، ليروي لنا قصة لها أن تحكى في رحلة من العطاء عاشها للفن وفي الفن. بدأ أولى محطاتة بعد تخرجه في أكاديمية الفنون الجميلة بجامعة بغداد 1968م، وفي العراق تعرف على أسرار خلق الجو المناسب للوحة الفنية، على يد قامتين فنيتين وهما الفنانان فايق حسن وعطا صبري، وقد ظل وفيًّا لهما في فنه ولونه ولكن بنكهة قطرية. سجل الفنان جاسم أعظم موقف وفاء لمسيرة فنان عظيم، بإصراره على تأسيس الجمعية القطرية للفنون التشكيلية في بداية ثمانينيات القرن الماضي، حيث كان الزيني أول رئيس لها، ودعا الفنانين للارتقاء بمسارهم، فكان خير ناشر للوعي الفني. وقد شارك مئات المشاركات في معارضه المحلية والدولية، ونال أعظم جائزة تقديرية تمنحها دولة قطر في عام 2007 وشيدت أعماله في المتحف العربي للفن الحديث، وجدارية في مركز كتارا وانتشارها بشكل مؤثر من حوله. إن المنجز الفني عند الفنان يرتكز على توجهين إبداعيين على مستوى الشكل التصويري والتجريدي خلال مسيرته الممتدة بين عامي 1967 - 2012 بالحس الإنساني، وهنا تكمن قوة السر في إبداع الفنان، حيث كانت أناشيد البحر الإلهام الذي أثرى فكره بأعماله التي توثق التغيرات التي شهدها المجتمع بعد اكتشاف النفط، وتأسيس الدولة عبر أعمال تستحضر تفاصيل ملهمة من ماضٍ وحاضر، في علاقة جدلية مع البيئة، عاشها وعاصرها في أواخر فترة الغوص عن اللؤلؤ، بالتعبير عن رؤية مستقبلية بشكل يليق بها. الواقع أن الفنان قد مر في المراحل الفنية الأربع التي تبدأ في البحث عن الذات، بل تعددت المجالات لديه بدءًا من الحروف، ووصولًا إلى استخدام مواد أعيدَ تدويرها، وتنقسم إلى الواقعية التسجيلية، وهي واقعية الزمان والمكان، وليست واقعية القواعد التي تنقلها الكاميرا بأشكال معمارية تراثية، ومنها تنفيذ الجداريات الثلاث بالفسيفساء مستخدمًا فيها تقنية المعاجين الإسمنتية الملونة، في ظل ما يمتلكه من قدرات متمكنة. أما الواقعية التعبيرية، يصفها زيني بأنها تتبنى الواقعية المتطورة، إذ عانقت البهجة في طرحها وصدقها وقدرتها على التكيف بالتعبير الخطي المبالغ فيه، دون تقيده بالواقع ولوحاته في كل شكل وكل ضوء وانكسار ظل، تتسم بالطابع المشهدي في معالجة شؤون الحياة اليومية التي تجعلنا نرى شخوصه كمحور للبناء في العمل الفني في اللحظة الإنسانية. للوحة ملامح قطرية بالزي الشعبي، حيث تم تصنيفها ضمن الأعمال الرفيعة في الإبداع التشكيلي العربي، وقد صافحها بإتقان البساطة المتناهية، وقد تحايل الفنان في استطالة الولد لتخدم الحبكة الفنية. وترمز للفنان ذاته بالرغم من أنه تربى في بيت ليس فيه بنات والبنت تخيط له زرًّا، ويغلب عليهما طابع الحزن والوقار، وتعتمد بالتته على ألوان أساسية، وإضافة الأسود والأبيض، وقد استطاع أن يحيله بخبرته إلى ذاكرة المكان، باللون الترابي والطيني القديم، بأسلوب غلق التكوين في اتجاه النظرة لكل من الوجهين إلى مركز العمل، وجعل بصر المشاهد لا يخرج عن حدود اللوحة، وبأسلوب قصصي ممتعةٍ رؤيته. إن المرحلة الثانية هي الرمزية التعبيرية، حيث تتحول المفردات بصدقها إلى الرموز، وانغمست في المضمون، وصنعت الإبداع في تفوق الحروف ومنها لوحة "قطر الحديثة"، فهو لم يحور الكلمة، بل ظلت الكتلة ناطقة بالاسم، وإنشاء بنائية معمارية تلامس الجمال، ليؤكد على مدلول معنوي عبر التاريخ أنّ قطر شبه جزيرة قديمة الوجود في التراث الحضاري. كما سيطرت على أسلوبه النزعة التبسيطية والتسطيحية بالرموز التراثية في سياق الموضوعات الشعبية المستلهمة للوحة التكامل، وبطابع شرقي في مبناها ومعناها. أما المرحلة الثالثة هي الحداثة، وتتحول إلى مفاهيم جديدة في بنائية العمل ومتماسكة عند الفنان، وتقوم على كثير من الاتجاه والاتساق في مساحتها وعناصرها التي عادة ما تكون قليلة التفاصيل، لكنها مليئة بالبوح الإنساني المبنيّ على الطرح المتأصّل في مضمون المفردة وتلخيص الخبرة على أساس الإتقان في الشكل واللون والضوء. للوحة انعدام الجاذبية، وقد رسمها بشكل هندسي شفاف، ويبدو اللون الأبيض سابحًا في الفضاء للدلالة على أنه بعيد عن تحكم القدرة البشرية بأسلوب تقنية التكوين المفتوح، التي تجعل المشاهد وكأن للعمل تكملة تأتي ببصره ليرسو في المحطة الأخيرة، وهي المرحلة الوثائقية في معرض سرادلة الغوص لا أعمال محدثة من أجل توثيق تراث الذاكرة المحلية. وما زالت ملهمة لكل الناس. إن شخصية الفنان جاسم الساكنة والصامتة تذكرنا بمقولة ماتيس "بما أنني لا أستطيع الحراك والنهوض، فقد صنعت لنفسي حديقة من الورق مليئة بالعصافير. ففي عام 2012 بالرغم من معاناته من المرض في المستشفى إلا أنه أصر على مقابلة صاحب السمو الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، وأن يشارك في معرض مال لول للوحة "غفوة وفزعة". وهنا يرصد خصوصية في الشكل والمضمون، بأسلوب الفن التنقيطي للون الحالم، وهو يعلن عن رحيله، تاركًا إرثًا فنيًّا يحمل أعماقًا تحتاج إلى الغوص في صيد الذكريات عن كنوزها وبمفاهيم من الذاكرة الجمالية الجديدة إشعارًا وافتخارًا بهوية عربية. وللوحة وسام الفنون، كأنه يذكرنا بالجائزة الشرفية التي تمنحها وزارة الثقافة الفرنسية للمبدعين؛ وهو يسعى في ذلك إلى أن ينال المبدع استحقاقه الوطني على جميع المستويات الشخصية والفنية، بحيث يغدو من الصعب الكتابة عن منجزاته في مقدار التفرد في روح الحداثة النهضوية. فكيف إذا كان الفنان القطري هو جاسم زيني؟! [email protected]