14 سبتمبر 2025

تسجيل

سحابة صيف ثم تنقشع

01 أبريل 2015

ذكر صاحب كتاب "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين" أن محمد بن شبرمة كان إذا نزل به البلاء، قال "سحابة صيف ثم تنقشع" نعم، هي إذا سحابة صيف، لا يدرك المرء ما فيها من نعيم، وإن أتعبه أو أرهقه ظاهر حالها، فكم من منحة في جوف محنة، وكم من نعيم في جوف ابتلاء. وقد قال سفيان رحمه الله: "ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة، والرخاء مصيبة".إن البلاء سنة الله الجارية في أرضه، يبتلي عباده الصالحين وفق حكمته جل وعلا، وجعل لكل نصيبه من البلاء على قدر اتصاله به، قال تعالى: "إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا" والناس أمام فهم فلسفة البلاء على قسمين: الأول: من يفهمه ويفهم علة وجوده، فيتعامل مع البلاء على أنه عطية الله له، إما مكفرة لذنوبه أو رافعة لدرجته أو صارفة عنه من المصاب مثله أو أكبر منه، فهو إذا سعيد للمآل وإن تغير به الحال، ذلك ان بشارة تنتظره وهو مدرك أنها قادمة قال تعالى: "وبشر الصابرين". الثاني: من يجزع للبلاء ويتسخَّط على القضاء، فتضيق عليه نفسه، وتضطرب عليه حياته، ويضيع منه الأجر ولا يكون إلا ما قدر الله وقضى. كان يحيي بن معاذ يقول "يا ابن آدم، ما لك تأسف على مفقود لا يرده عليك الفوت؟!، وما لك تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت؟وتعامل الناس مع المصائب التي تحل بالعبد وليس له حيلة في دفعها، كموت من يعزُّ عليه، وسرقة ماله، ومرضه، ونحو ذلك، فلا يخلو العبد من أربع مقامات كما قال ابن القيم رحمه الله:أحدها: مقام العجز، وهو مقام الجزع والشكوى والسخط، وهذا ما لا يفعله إلا أقل الناس عقلاً وديناً ومروءة.المقام الثاني: مقام الصبر إما لله، وإما للمروءة الإنسانية.المقام الثالث: مقام الرضى وهو أعلى من مقام الصبر، وفي وجوبه نزاع، والصبر متفق على وجوبه.المقام الرابع: مقام الشكر، وهو أعلى من مقام الرضى؛ فإنه يشهدُ البليةَ نعمة، فيشكر المُبْتَلي عليها).والصبر ينال بالتدريب عليه قال صلى الله عليه وسلم: "من يتصبر يصبره الله، وما أعطي أحد عطاء هو خير وأوسع من الصبر"متفق عليه.ويساعد في التدريب عدة أمور: أولاً: معرفة البلاء على أنه من سنن الله الجارية يقع على المخلوقين اختباراً لهم، وتمحيصاً لذنوبهم، وتمييزاً بين الصادق والكاذب منهم قال الله تعالى (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) وقال تعالى (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) وقال تعالى (ألم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط. وهو بهذا المفهوم مكفر للخطايا قال صلى الله عليه وسلم "ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّر الله بها من خطاياه" وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله يقول "ما ابتلى الله عبدًا ببلاء وهو على طريقة يكرهها، إلا جعل الله ذلك البلاء كفارة وطهورا ما لم ينزل ما أصابه من البلاء بغير الله عزَّ وجلَّ أو يدعو غير الله في كشفه"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة". ثانيا: أكمل الناس إيمانا أكثرهم وأشدهم بلاء قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلباً اشتد به بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة". ثالثا: البلاء يمضي مع صاحبه حتى يبلغه أرفع المنازل وأعلاها برفقة النبي محمد، فالعبد تكون له عند الله المنزلة، فما يبلغها بعمل، فما يزال الله يبتليه بما يكره، حتى يبلغه إياها. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله "إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها"، وكان شُريح يقول "إني لأصاب بالمصيبة، فأحمد الله عليها أربع مرات: أحمد إذ لم يكن أعظم منها، وأحمد إذ رزقني الصبر عليها، وأحمد إذ وفقني للاسترجاع لما أرجو من الثواب، وأحمد إذ لم يجعلها في ديني".رابعا: النظر في أحوال أهل البلاء الأشد فمن يرى بلاء الناس يهون عليه بلائه، قال سلام بن أبى مطيع: دخلت على مريض أعوده، فإذا هو يئن، فقلت له: أذكر المطروحين على الطريق، أذكر الذين لا مأوى لهم ولا لهم من يخدمهم، قال: ثم دخلت عليه بعد ذلك، فسمعته يقول لنفسه: اذكري المطروحين في الطريق، اذكري من لا مأوى له ولا له من يخدمه".خامسا: أقدار الله لا تأتي إلا بخير ولا تفارقها ألطاف الله عز وجل: البلاء من قدر الله المحتوم، وقدر الله لا يأتي إلا بخير، قال ابن مسعود: "لأن أعض على جمرة أو أن أقبض عليها حتى تبرد فى يدى أحب إلى من أن أقول لشيءٍ قضاه الله: ليته لم يكن" ولطف الله المصاحب للبلاء لا ينفك عنه، مات ابن لعروة بن الزبير وكان قد بُترت ساقه، فقال رضي الله عنه "اللهم إن كنت ابتليت فقد عافيت، وإن كنت أخذت فقد أبقيت؛ أخذت عضوًا وأبقيت أعضاء، وأخذت ابنًا وأبقيت أبناء".سادسا: من أعظم المعينات على المصائب تلقي أقدار الله بالرضا: "مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ" وعن العباس بن عبدالمطلب قال: قال رسول الله "ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا"، فالرضا بقضاء الله يورث حلاوة الإيمان التي تهوِّن من أثر الشوك تحت الأقدام.سابعا: تفهم طبيعة الحياة، وأنها دار كدر وابتلاء وعناء، والدنيـــا فيها بمثابة القنطرة التي تعبر بها إلى الدار الآخرة، فلا تحزن على ما فاتك فيها ..قال ابن الجوزي "أما بعد؛ فإني رأيت عموم الناس ينزعجون لنزول البلاء انزعاجًا يزيد عن الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذا وضعت! .. وهل ينتظر الصحيح إلا السقم؟، والكبير إلا الهرم؟، والموجود سوى العدم ؟!" [وقال أيضًا "ولولا أن الدنيا دار ابتلاء لم تَعْتَوِرْ فيها الأمراضُ والأكدار، ولم يضق العيش فيها على الأنبياء والأخيار .. ولو خُلِقت الدنيا للذة لم يكن حظّ للمؤمن منها". سابعا: يعين العيد على التصبر: معرفة ثوابه، ويهون عليه الحزن معرفه ما أعده الله له قال تعالى "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ"،مات عبدالله بن مطرف، فخرج مطرف على قومه في ثياب حسنة وقد ادهن، فغضبوا وقالوا: يموت عبدالله ثم تخرج في ثياب مثل هذه مدهناً؟!، قال: "فأستكين لها وقد وعدني ربي تبارك عليها ثلاث خصال كل خصلة منها أحب إلي من الدنيا كلها؟!، قال الله عزَّ وجلَّ: "الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ* أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ" فأستكين لها بعد هذا.والصبرُ مثلُ اسمه مُرٌّ مَذَاقُهُ … لكنْ عواقبه أحلى من العَسَلِوأخير: أستعن بالله ولا تعجز ، وثِق بحدوث الفرج من الله سبحانه وتعالى .. إذا رأيت أمرًا لا تستطيع غيره، فاصبر وانتظر الفرج .. قال تعالى: "فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا".