16 سبتمبر 2025
تسجيلالعقلُ الجَمْعِيُّ، بتبسيطٍ شديدٍ، هو المعاييرُ والقِيَمُ المُتعارَفُ عليها لدى جماعةٍ بشريةٍ، دينيةً أو قوميةً أو وطنيةً، تحكمُ سلوكَ ومواقفَ الأفرادِ والجماعاتِ، وتؤثِّرُ في قراراتِهِم وتعامُلِهِم مع الآخرين، داخل بيئاتِهِم المحليةِ وخارجها. فهو، بذلك، وجودٌ افتراضيٌّ يتكوَّنُ من أفكارٍ ورؤى، نعتقدُ جازمينَ بصحتِها، تُلقي بظلالِها على الواقعِ المُعاشِ مُخَلِّقَةً حالةً دافعةً أو مُثَبِّطَةً للتنميةِ في كلِّ مستوياتِها.اللافت للنَّظَرِ في العقلِ الجمعيِّ القطريِّ أنه يستجيبُ للتغيُّراتِ الشاملةِ في البُنى الاجتماعيةِ، والمُصاحبة للتطوُّرِ في البُنى السياسيةِ والاقتصاديةِ والتعليميةِ في بلادِنا، بصورةٍ إيجابيةٍ رائعةٍ رغم مواضعِ قُصورٍ هنا وهناك، ولنضربْ أمثلةً تُوَضِّحُ ذلك:المثالُ الأول: هو الانفتاحُ على الحضاراتِ، وهذا جانبٌ ذو أهميةٍ بالغةٍ لأنه المَظَهَرُ الأبرزُ للتجديدِ في البُنى الفِكريةِ لعقلِنا الجمعيِّ، فهناك حالةٌ من احترامِ الآخرِ، المُختلفِ في العقيدةِ والقِيَمِ عنَّا، والقبولِ به، وهي ليستْ حالةً مُدَّعاةً أو ناتجةً عن القوانينِ التي تضبطُ علاقاتِ الأفرادِ والمجتمعِ، وإنما تعبيرٌ عن بلوغِ مرحلةٍ عاليةٍ من المَدَنِيَّةِ والتَّحَضُّرِ تعكسُ نجاحَ التعليمِ والتوعيةِ الاجتماعيةِ في التأثيرِ الإيجابيِّ في عقلِنا الجمعيِّ، ومن المؤكدِ، أنَّ هناك رافضين للآخرِ لدوافع ينسبونَها للإسلامِ الحنيفِ أو الأخلاقِ والأعرافِ الاجتماعيةِ، لكنهم قِلَّةٌ يضمنُ لهم الدستورُ والقوانينُ حريةَ التعبيرِ بما لا يمس كراماتِ الآخرينَ أو يُهدِّد الأمنَ الاجتماعيَّ.المثالُ الثاني: هو الموقفُ من الانتقالِ لدولةِ المجتمعِ المدنيِّ التي تُدارُ شؤونُهُ من خلالِ المؤسساتِ ووَفْقَ القوانينِ المعمولِ بها، فلم يكن هناك، في بدايةِ إنشاء بعضها، قبولٌ بدورها كمؤسساتِ رعايةِ الأسرةِ والطفلِ، مثلاً، لأنَّ العقلَ الجمعيَّ تعامَلَ معها على أنها تهديدٌ لكيانِ الأسرةِ القائمِ على سلطةٍ أبويةٍ مُطْلَقَةٍ هي محورُ حياتِها وعاملُ الانضباطِ الرئيسِي فيها. لكن التوعيةَ الاجتماعيةَ التي قامتْ بها وسائلُ الإعلامِ، واستُثْمِرَ الفنُّ، تمثيلاً تلفزيونياً ومسرحياً، لتعزيزِها، كانت روافع نفسيةً وعقليةً للقبول بتلك المؤسساتِ، ثم التَّعامُلِ معها كجزءٍ من عَمَلٍ مجتمعيٍّ ضخمٍ ترعاه الدولةُ ويسعى للحفاظِ على الأسرةِ، وتخليقِ أُسسٍ جديدةٍ للروابطِ فيها تُسْهِمُ في بناءِ الإنسانِ الفردِ ذي الإرادةِ الحرةِ القادرِ على التفاعلِ مع الواقعِ بإيجابيةٍ مثمرةٍ.المثالُ الثالث: هو النظرةُ للمرأةِ التي اعتادَ مجتمعُنا أنْ يربطَ الأخلاقَ العامةَ بها، فكانَ خروجُها للعملِ، وممارستُها لحقوقِها السياسيةِ والاقتصاديةِ التي يُنَظِّمُها الدستورُ، أموراً صادمةً لأنها تتحدَّى الموروثاتِ الاجتماعيةَ، وليس لأنها تُخالفُ الإسلامَ الحنيفَ، إلا أنَّ التعليمَ، والانفتاحَ الإعلاميَّ، والاستقرارَ السياسيَّ، والرِّفاهَ، والعدالةَ أثَّرَتْ بشدةٍ في تطويرِ المَوروثاتِ لتستجيبَ للحداثة، وإحلال ركائزَ جديدة في بُنيةِ عقلِنا الجمعيِّ تستندُ إلى احترامِ دورِ المرأةِ والقبولِ به. وقد يقولُ البعضُ إنَّ فينا مَنْ يرفض ذلك، فأقولُ إنَّ هذا صحيحٌ، لكنه ليس ظاهرةً وإنما مواقفُ فرديةٌ، لأصحابِها الحقُّ في اتِّخاذِها والتعبيرِ عنها في ظلِّ سقفِ الديمقراطيةِ.