12 سبتمبر 2025

تسجيل

دأب التعارف دأب التخفف

01 فبراير 2021

قلّما وجدتُ في الأدبيات والمقالات النفسية التي تناولت مفهوم الصداقة بشكل عام أن عرّجت في تحليلها على موضوع التعارف، على ماهيّته، وغرابته وغموضه، وعلى جدّه وهزله؛ ربما تتبدّى روابط الصداقة في الذهن أكثر وضوحًا مما هو الحال مع فلسفة التعارف - وما يعتريه من مرأى وانطباع وشكٍّ ويقين- ولا جرو أنه أوّلى الخطواتِ نحو الصداقة، وفِي أحايين مغايرة: نحو العداوة! إذ أن لحظة القبول التي تمهّد للقرب، قد تكون هي ذاتها لحظة النفور التي تقود للإعراض، وعجيبة هي النفس؛ ومحيرة هي الروح؛ ولغز هُو الإنسان. ما الذي يبعث المواءمة؟ ويقود نحو التآلف؟ وما الذي ينشر الصدود كما تنشر العناكب خيوطها؟ ثم يومئ بالجفاء والشرود؟ كل هذا الجمع والاحتشاد من مشاعر، وإطلاق أحكام، واتخاذ مواقف لا يكون إلا في لحظات سريعة، تتشكل في لقاءات عابرة، وأحيان تُطلَقُ في مجرد لقاء أو مواجهة. الإنسان مدني بطبعه كما يُقال، ينزع للجماعة، ويرنو إلى كل قُطرٍ يملؤه الناس، فيأتي إليهم من كل فج، لا تمنعه الموانع، ولا يقف في وجهه باب عزلة؛ وإن شاء الأمر لخلع أبوابها جميعًا وإن أضمر في نفسه نية اختلاء ونأيْ. ولكنه في الحال ذاته عصيّ على الانقياد، عسير على الطوع، فاترٌ على الحركة؛ وقلما يأمن بمصاحبةٍ قبل أن يُؤَمّن الراحة و السلامة، ولو دفعته من النزوة دوافع، وأخنعه للتخلي عن إمساكه مغنم، وأطلقه من انحباسه طمع، فهو لا يأمن في غالب الأحوال لأي أحد ما لم يخبره جيًّدا، ويفتش عن خباياه بدقة، ويحدق في لون معدنه بإمعان، ومن أظلم لنفسه ممن اتخذ الصحاب بلا معاشرة ولا روية، ثم وقع في شِراك الخيبة!. مسألة الصحبة جدليّة، متنازع عليها من شتّى النواحي، شبه تقديرية إن لم تكن كل، والقياس فيها محفوف بكل مآل، والأمر من قبل ومن بعد فيه من الاستنزاف الذهني والعاطفي ما يحجمُ عن اتخاذ الرفقاء، ويسوقُ نحو اجتناب الندماء. لا يعني هذا أن الرغبة في التصادق سرعان ما تكل؛ والميل للمشاركة والاختلاط أقرب أن يُمل؛ كَلَّا، قد تجد من يكثر من المصاحبة وخلق العلاقات، وربما اختلاق المداخل إليها، مكلفًا نفسه، حملا ثقيلا وهو في غنى عن التكليف، يوسع دائرة معارفه بقدر استطاعته، ويتبادر لك أنه يعاني من هوس ما، وما هو بالهوس، إنما من الوارد أنه ليس إلا حالة لضمان الإحاطة ومسلكا للهروب من غول الوحدة ووحشتها. وقد ترى من يلتفت إلى الجموع ويلقي بنفسه عليهم في أفراحهم وأحزانهم، بغية القرب لا لغاية نفعية وهم كثر ولكن لحاجة معنوية، ومطلبٍ نفسيٍ ماكِن، مهما شق عليه هذا التكريس، وعظم هذا التوجه على قدرته. وقد تبصر من تبصر يسبر المجالس والدواوين وغيرها ساعيًا وراء هذا المقصد سعيًا حثيثًا، من غير أن يكشف للآخرين ولو طرفًا من وجه مقصده، ليس له من الجهد والبؤس إلا إدمان هذه العادة. تتأملهم جميعا فتجدهم لا يزيغون عن هذا الطبع وعن التطبع به، حتى يلتصقوا به ويهيموا في بحره ويتخذوه منهجا، بهناءه وشقوته، بلا عَياء. ولكنك إن أمعنت النظر في أفق الإنسان ورؤياه ومنحى تحولاته في الحياة، لوجدته كلما أوغل به العمر أزمع في التخفف، ومتى أكثر هجير التجارب عليه من اللفحات الحارقة، راغ هو بدوره إلى ظل في الفلوات يتقي به مكابدة القرب، وسهام البعد ما أمكن له إتقاءه، وهكذا ينكفئ على نفسه كلما تقادمت به الأيام شيئًا فشيئًا ويتصومع في خلواته إلا قليلا، ويسرح في بيداء ذاته بعدما كان يقضي الصباحات بين ذاك وذاك وعند أولئك.