17 سبتمبر 2025
تسجيلعندما كنا صغاراً في الفريج، كنا نتطلع دائماً إلى الشعور بأننا كبرنا أو أننا نكبر، لا شىء في الفريج يدل على أننا نكبر، الحياة هادئة إلى درجة الرتابة لا نملك من وسائل الاتصال سوى تلفونات البيوت، التلفزيون ليس الجميع يملكه وفترة بثه محدودة جداً، نشعر بأن الزمن باقٍ والوقت لا يمر، نتكدس أمام الدكاكين؛ تلفت أنظارنا أنواع السجائر بألوانها المتعددة والمختلفة، شكلت لنا تحدياً واضحاً، لا يدخنها سوى الكبار وعادة ليسوا من أهل الفريج، بعض الاساتذه والمدرسين، نشعر بأن هناك زهواً يخرج مع دخانها وشعوراً بالثقة. أذكر بأن أحد أصدقائي حدثني في الصف عن تجربته في التدخين عصراً في زرع والده وأنه يحتفظ بعلبة السجائر هناك، فذهبت معه ليخرجها من مكان دفنها في طرف المزرعة، صغيرة جداً اسمها «نويكت» هكذا كنا ننطقها، أعطاني سيجارة لم استطع تدخينها كما يجب وإنما اكتفيت بإخراج الدخان من فمي، ومع الأيام وجدت جميع أصدقائي يملكون علباً للسجائر منها «الكابتن «وبو» قطو» وبوطماط «وطبعا نويكت وغيرها. المهم أن مجتمع الفريج من كبار السن لاحظ ذلك؛ فتنادوا بوقف بيع «المخزي» هكذا كانوا يطلقون على الدخان «السجائر» وتنادوا بعدم ذهاب الأولاد إلى الدكاكين؛ حيث بياع المخزي، والأدهى من ذلك أن وسائل المراقبة كانت لصيقة جداً بحيث أصبح الشم حاسة خطيرة تكشف من يدخن من غيره» شميت في ثياب ولدك ريحة «تتن» سمعتها من أحدهم يكلم زميلاً له من كبار السن في الفريج، لا تمش مع فلان تراه يدخن المخزي تحمل تصير مثله» أيضاً، هذه في حد ذاتها تهمة كبيرة قد لا يبيت صاحبها في بيته تلك الليلة إلا وقد وبخَ وربما ضُرب من قبل والده. ماذا كان يعني التدخين في ذلك الوقت كان يعني العزلة الاجتماعية وليس من المسموح للمدخن أن يدخل المسجد لو عرف عنه أنه مدخن كان محرماً في التقاليد، بل سمعت أن هناك من يرفض تزويج المدخن في تلك الأيام، ما يهمني هنا التركيز على الوظيفة الأخلاقية التي كان يمثلها الشعور الجمعي لدى أهل الفريج. اليوم نرى العالم كله يضع التدخين ليس فقط في خانة المخزي الذي يشعرك بالمهانة بل في خانة الخطر الذي يهدد صحة ووجود الإنسان ذاته، دينياً ليس هناك اجماع على حرمته ولكن اخلاقياً كان يكشف عن بداية للخروج من نطاق التفكير المسموح به في ذلك الوقت، كان أهل الفريج أيضاً يحتقرون من يستورده، ناهيك عمن يبيعه كذلك، بينما كان يمثل لنا نحن الصغار بداية الاعتماد على الذات وبناء الشخصية والشعور بالمسؤولية، ثم جاءت «مخزيات « أخرى إضافة الى التدخين بحكم تطور المجتمع وانفتاحه على العالم، ولو عاش أهل الفريج إلى يومنا هذا لقضوا جل وقتهم في البحث عن «الجليل» المستحب «الذي يدعو إلى الاحترام « بعد تحول المخزي إلى ثقافة عامة ولغة تخاطب وألفاظ تأنف الأذن من سماعها ويخجل القلب من الانصات إليها. [email protected]