16 سبتمبر 2025

تسجيل

معجم المقاومة لمناهضة الاستعمار اللغوي

31 أكتوبر 2023

إنّ أهم أدوات تأسيس الحقّ وإقراره هي الوعي الجمعي وهذه أول أهداف العدو مناهضة وطمسا ولا شكّ بأن اللغة وعاؤها. لقد تعلّم معظم أبنائنا تعليما غربيا ولكن أبت الأسر الواعية إلا أن تشحذهم بالعزّة بهويتهم التي تتجلى في نهضة كثير منهم اليوم في مواجهة العدوان الإسرائيلي. ولكن الصورة ليست واحدة عند الأجيال العربية خصوصا وأن منهم من لا يفقه معنى أمته ومكنونه الاجتماعي ووعيه وضميره الجمعي الذي ما فتئ يسلخ منه من خلال أكبر تغييبين، الإعلامي السينمائي الغربي والتعليمي وهو الجيل الذي نعول عليه ذاكرة المقاومة ويعولون هم على تشكيله وتغييبه لأنه الجذر لأسر المستقبل. ولم نسلم من أقوى المؤثرات التي تصيغ وتغذّي كلا الأداتين الإعلام والتعليم ألا وهو الاستعمار اللغوي. فلنفترض أن أراضينا العربية محررة جغرافيا إلا من فلسطين وبعض الأراضي المتفرّقة المغتصبة إلا أنها جميعا وللأسف مستعمرة اجتماعيا وثقافيا، فكيف تم استعمارنا لغويا؟ نستنكر على قنوات كالعربية وسكاي نيوز نعتها الشهداء بالموتى أو القتلى بل ونتعجب كيف لا تخجل من تصحيح كلمة شهيد بقتيل! هذا الاستخدام ليس غيبوبة في الوعي الجمعي بل تغييب مدروس وخطّة سياسية محكمة يرتكز عليها المستعمر لصنع الغيبوبة بأدوات تغييب محليّة. نسعى كشعوب للدفاع عن مقدساتنا والحدود الجغرافية مغلقة بيد أن الحدود اللغوية مفتوحة ولكنها مهملة. اليهود لا دولة لهم لكن لغة الاستعطاف ومصطلحات المظلومية وتكرارها عالميا آتت ثمارها بدعم دولي ليس تكفيرا من عقدة الذنب لكن بخطة استعمارية مخططة المصالح. صياغة مظلومية اليهود ومعاداة السامية في المعجم الإسرائيلي تتكرر في كلّ خطاب وكل منصة وكل حديث عالمي وكل قضيّة وكل... وهو جدير بالجمع والتحليل. عوقبنا نحن العرب بإسرائيل ولم يعاقب الألمان ولا الغرب فارتكبت فينا ما لم يرتكبه هتلر فيها، ولم تستخدم إسرائيل فقط القرارات السياسية التي أعطت الدول الكبرى لها فيها حق الفيتو بل احتشدت لها حملات أعتى من نظريات الدعاية الرمادية لـ «غوبلز» وسخّر للتناول الإسرائيلي معجما خاصا للتأثير واستدرار التعاطف واحتلال العقل الغربي ومن ثم العربي المتصهين، بل وتغييب أجيال كاملة تعلمت بين مستشرقين أو صهاينة مدسوسين في عقر دورنا. ورغم أن خطاب المظلومية اللغوية لإسرائيل تقوده سياسة غربية مؤدلجة، إلا أنها لم تجد لها شبيها في السيمولوجيا اللغوية العربية رغم أنهم أصحاب حقّ منتهك. الأدباء العرب كانوا أنبه من اللغويين وأكثر وحدة فقد ناهضوا حركة الاستعمار بـ «أدب المقاومة» على يد الشاعر الشهيد غسان كنفاني في الأربعينيات وصار علما وصوتا وسلاحا ناعما، ولم ينتج اللغويون معجما خاصا للمقاومة يعمّم في الخطابة والسياسة والإعلام ليكون ملزما، وما يزيدنا ألما أن صهاينة العرب تفننوا في تبني المعجم الإسرائيلي لغسل أدمغة الشباب العربي وفصله عمن هم في ميدان النضال الحقيقي يصنعون مفردات المقاومة فوق صناعتهم لأدواتها وهم عزّل. ناهيك عن أن التكوين الإسرائيلي وتجميعهم من خليط غير متجانس في أرض واحدة سهَّل لهم الوحدة اللغوية للخطاب، فتبدو الفرقة اللغوية الجمعية – رغم أن قلوبهم شتّى – أصعب بكثير من اجتماع أمة بدين واحد ولغة واحدة. صناعة «معجم المقاومة» ضرورة وهو ليس دور الفلسطيني المرابط الذي يتلقى القتل والإبادة والتهجير يوميا رغم أنه صنع فيه السبق والمعجزات من كلمات مدويّة ارتبطت بنضاله مثل العمليات الاستشهادية والفدائية وأطفال الحجارة وكلمات مثل «انتفاضة» التي انتقلت للمعجم العالمي بذات المدلول والنطق العربي. فكلمات كتائب المقاومة والقسام والمناضلين في الميدان لم تؤسس سدى أو من فراغ لننتهكها؟ شعارات مثل «فلسطين من النهر إلى البحر» غدت شعارا لكل وقفة تضامنيّة عالميا من سيدني جنوبا إلى نيويورك شمالا. اللغة رمز قوة وتحرر، والمعجم هو دورنا نحن من نمتلك أدوات الوعي الجمعي في دول تنعم بالأمن والسلم والبنى التحتيّة من أقمار ومحطات وأدوات الإعلام ولغته وصانعيه ومقدميه ومراكز التعليم والبحوث. معجم يفرض استخدام ألفاظ المقاومة على الإعلام العربي والإسلامي والخطباء والسياسيين والشعوب فرض عين وتكرارها حتّى تبث بتسمياتها العربية من خلال Transliteration (ترانزليتريشن) ورموز الاحتلال الإسرائيلي الغاشم.. المحتل وليس إسرائيل.. العدوان الصهيوني وليس اليهودي، بل وفوق ذلك (غيظ العدا) بتسمية المدن الفلسطينيّة في الخارطة الجغرافية للتغطيات مسمياتها قبل النكسة ثم العطف على مسماها في الاحتلال (لضرورات المشهد المنقول فقط ولإضعاف إمكانات العدو نفسيا، بل وتسميتها بمسمياتها قبل الاحتلال لكي ترسّخ الذاكرة العربية للخارطة التاريخيّة لفلسطين الحقّ المسلوب في أذهان الأجيال وتترسخ فوقه فرضيات الواقع قبل ظلم القرارات الأممية الغاشمة التي تضرب بها هي وإسرائيل عرض الحائط، وبذلك نستعيد الوعي الجمعي شيئا فشيئا. توقفوا قليلا عند نظرية النسبية اللغوية في العلوم المتداخلة بين علم اللسانيات وفقه اللغة وفلسفة اللغة والاجتماع فهي تؤسس على أهميّة اللغة في تشكيل الفكر والرؤى والوعي الجمعي هذا بالتأكيد في ظل معززات وتكثيف وعوامل اتصالية. توقفوا لتدركوا كيف تحركت إسرائيل بموجب تطبيق نظريات مدعمة لغويا واتصاليا لتسود الوعي العالمي بأكاذيب وكيف تقاعستم أنتم عن حقوقكم ونضالكم المشروع حتى لغويا ففرط عقد ضمير أجيالكم ووعيهم الجمعي، هذا رغم أن الشاعر الفلسطيني الشهيد عبد الرحيم محمود في رائعته التي حفظتها ذاكرة طفولتنا الواعية وغُيّبت عن أطفالنا في زمن غفلة منهجية تقول: سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى ومنذ 1939 قبل استشهاده 1948 نبّهكم إلى ضرورة تبني نظرية اللغة وتأثيرها وذلك بألا تتبع لغتكم سلاحكم! بل تسبقه! في قوله: وما العيشُ؟ لا عشتُ إن لم أكن مخوف الجناب حرام الحمى إذا قلتُ أصغى لي العالمون ودوّى مقالي بين الورى (إذا قلت) جوابها (أصغى) ومن؟ (العالمون) «القول المدوي» نضال لغويّ عند العدوان الغاشم لن يتأتى نظريا وتطبيقيا إلا إذا صنعنا معجما للمقاومة احترمنا فيه نضال المقاومين الحقّ بحيث تتّحد فيه الرواية ومصطلحات الخطابة والإعلام لاتجاهين وهدفين: الأول: ثقافي إسلامي عربي لتحصين ذاكرة الأجيال ووعيهم الجمعي في ظلّ استمرار غسل الأدمغة من قبل المتصهينين العرب قبل الصهاينة والمستشرقين المتقنّعين المبثوثين حولنا. والثاني: عالمي لتأصيل الحقّ وتأكيده دوليا حتّى لو فرضنا عروبة نضال كلماتنا. المهمّ أن يقرّ «معجم المقاومة» ويتعدّى آنية التأثير وأن يتجاوز نطاقه مسامعنا وصدى صوتنا لنكون فعلا «مخوف الجناب حرام الحمى» ونقود لغة التحرير والتغيير.