19 سبتمبر 2025
تسجيللا أصعب على الصحفي والإعلامي من أن يتحول فجأة إلى الخبر ذاته، ولا أصعب من أن يقوم هو بنقل خبره وخبر عائلته، فالإعلامي وفي عقله الباطن إنما يمارس دور بطل الفيلم، فيظن أنه آخر من يموت في المسلسل، وإلاّ فمن سيروي باقي الحكاية، ربما ذاك ما جرى لزميلنا وائل الدحدوح الذي ظل لسنوات، بوابة العالم العربي إلى غزة، وبوابة غزة إلى العالم العربي، فجأة ترحل زوجته وابنه وابنته، وحفيده، ومن قبل بعض أقاربه بفعل الجنون الصهيوني قصفاً لمنطقة لا تتعدّى 360 كم2، وذلك بكل الأسلحة الإجرامية التي تفتقت عنها الذهنية الصهيونية، لكن المفاجأة الأكبر هي أنه واصل تغطيته الإعلامية، ربما هرباً من واقع أليم يعيشه المرء في مثل هذه اللحظات، وربما الأدق سعياً للثأر والانتقام من قاتل أهله، وأكباده، فهي الطريقة الوحيدة التي يستطيع الصحفي أن يثأر لنفسه، عبر فضح ممارسات العدو الصهيوني. أدرك وائل الدحدوح أن الاحتلال إنما ينتقم منه ومن الجزيرة عبر أولاده، حين قالها علانية وأمام الكاميرات، ودموعه قد غسلت وجهه، لاسيما وأن واشنطن كانت قد طلبت من قطر قبلها بساعات تخفيف تغطيتها على الهجمات الصهيونية على غزة، لكن الجزيرة التزاماً بخط تحريرها الممتد لسبعة وعشرين عاماً قاومت كل أشكال الضغوط إن كان خلال تغطيتها على العراق أو أفغانستان، وحتى فلسطين من قبل، فقد رفضت الطلبات الأمريكية هذه، وأصرّت على مواصلة تغطيتها المهنية. كان على الأمريكي أن يستحضر قبل طلبه الغريب هذا سياسة الجزيرة التحريرية يوم رفضت مطالبه هذه، وهو الذي كان النمر الجريح بعد الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول حيث كان من الصعب على أية دولة قوية في العالم أن ترفض له طلبه، فكيف بمؤسسة إعلامية كالجزيرة، فهل يتوقع اليوم أن تستجيب له؟ فلا تل أبيب هي واشنطن، ولا حماس هي القاعدة التي قامت بهجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول، حيث الدعم الشعبي والإنساني الهائل للشعب الفلسطيني، دحض كل الروايات والسرديات الصهيونية، ولا أدلّ على ذلك من مظاهرات نيويورك ولندن وباريس وسيدني وحتى تل أبيب المنددة بالعدوان الصهيوني على غزة والمطالبة بوقف الحرب المجنونة، فضلاً عن مئات المظاهرات في بقية العالم العربي والإسلامي وغير الإسلامي. وفي حضرة رحيل عائلة الزميل الدحدوح نستذكر قافلة شهداء الجزيرة الذين رحلوا على هذا الطريق، طريق الاستمساك بالحق الإعلامي، وبالرسالة الإعلامية، وبالمهنية الإعلامية، يوم دشن هذه القافلة المباركة الشهيد الزميل طارق أيوب حين صبّت واشنطن جام غضبها على الجزيرة فاستهدفت مكتبها في بغداد. رحل عنّا طارق، وأبقى خلفه إرثاً إعلامياً كدليل على الصمود والثبات على المهنة، فواصلت الجزيرة من بعد تغطيتها بكل مهنية واحترافية، على الرغم من كل الضغوط التي نعرفها تماماً والتي تعرضت لها الجزيرة يومها، وسبق هذا قصف مكتب الجزيرة في كابول حين كانت القناة الإعلامية الوحيدة التي انفردت بتغطية الحرب الأمريكية على أفغانستان 2001، فاعتقل الزميل المصور سامي الحاج في قندهار، ثم اعتقل الزميل تيسير علوني لسنوات في اسبانيا بحجج واهية، تبين تهافتها حين أُفرج عنهما دون توجيه أي تهمة لهما. وحين ضاقت الأرض بما رحبت على الاحتلالين الأمريكي والبريطاني في العراق خرج جورج بوش الابن بفكرة قصف مقر الجزيرة في الدوحة، وكأن مشكلته في المرآة التي تعكس سوء أفعاله، وليس في سياساته المتخبطة، التي اعترف الكثير لاحقاً بأنها متخبطة، وأن الغزو كان خطأ كبيراً، وحين وقع ما وقع في ربيع ليبيا، رأينا قتل زميلنا المصور المبدع علي الجابر، وكما أن السجين يتعلم من سجانه، فإن الطاغية الصغير يتعلم ممن هو أكبر منه، ونفس النهج سلكه النظام السوري حين قتل الشهود، فكان منهم صحفيون غربيون في حمص، ثم قتل زميلنا الصحفي الرائع محمد الحوراني في درعا رحمه الله، ومع كل هذا لم يثن ذلك الجزيرة عن رسالتها ومهمتها، ولم تحرفها هذه التصرفاء الرعناء عن الرؤية التي اختطتها منذ انطلاقتها الأولى على يد الأمير الوالد سمو الشيخ حمد بن خليفة. محاربة الجزيرة بهذه الطريقة، التي تهدف إلى إسكاتها، كمحاربة طواحين الهواء، لن تصل إلى نتيجة، فالإعلام الحر والمهني يحارب بمثيله، أما الأكاذيب والأضاليل، فلا مكان لها في سوق الإعلام الحر، ولا قرار لها، ولا نصيب في ساحة إعلام مفتحة سماواته على كل شيء، فلم يعد العالم عبارة عن تلفزيون أسود وأبيض، فكل شخص لديه قناته الخاصة به، وربما قنواته على مواقع التواصل الاجتماعي، يستطيع من خلالها التعبير عما يجيش في صدره، فكيف إن كان صانع الحدث نفسه هو الذي يملك قنواته، ويبث أفعاله، كما يحصل اليوم في غزة.. الخلاصة وهي أن الإعلام عبارة عن عاكس للأفعال والتصرفات، فمتى ستدرك الأنظمة الاحتلالية والاستبدادية، التي تتظاهر مجرد تظاهر بالحرية والانفتاح شكلاً لا مضموناً، أن المشكلة في الفعل وليس في عكس الفعل الذي يقوم به الإعلام، فوظيفة الأخيرة هي أن تظلل ما يحصل، فانظروا في المرآة لتعرفوا شكلكم وهيئتكم، وإن وجدتم ما لا يسركم فلا تهشموا المرآة، فهذه المرآة ملك للجميع..