12 سبتمبر 2025

تسجيل

العودة إلى أندلس الماضي.. لاستشراف مستقبل أكثر تعايشاً «1-2»

31 أغسطس 2023

كتاب يلّفه الإبهار.. وهو يجمع في شمولية بين التاريخ والدين والحضارة والسياسة والقانون، عمد فيه الكاتب نحو سبر ماضي وطنه الإسباني الذي ترعرع في ظل الخلافة الإسلامية، ليقوده مستبصراً إلى الحاضر بتحدياته المحلية والدولية، ومن ثم استشراف المستقبل في رؤية أكثر تعايشاً. ومما يعزز من قيمته، التمجيد الذي حظيت به الحضارة الإسلامية في الأندلس بقلم الكاتب غير المسلم، وهو يدين لها بالفضل الكبير لما هي عليه إسبانيا الحالية، الأمر الذي أضفى على الكتاب روح المصداقية والحيادية والإنصاف. ومما يمعن في هذه الروح التوقيت الذي وضع فيه الكاتب كتابه هذا، حين كان الإسلام يواجه هجمات مغرضة في دعاوى إرهاب وتخلّف، حيث تصدى لها منكراً، وموضحاً وجهة النظر الأخرى. وعلى الرغم من تخصص الكاتب في علم القانون، إلا أن له عددا من المؤلفات في التاريخ الأندلسي، وكانت لفتة كريمة منه أن يتلقب بـ «المجريطي» نسبة إلى «مجريط» الاسم العربي لمدينة (مدريد) فترة الحكم الإسلامي (91- 795 هـ /‏‏ 711- 1492م). لذا، ينجح الكاتب (خوليو رييس روبيو) في توجيه كتابه (الأندلس: بحثاً عن الهوية الغائبة) إلى أصحاب الفكر الموضوعي، ويدعو من يهوى العودة إلى الماضي، لا للبكاء على الأطلال، بل للاستبصار ولاستقراء التاريخ وإنصاف ذوي الحقوق. فيحاول الاستفادة من الماضي بما يحوي من عبر ودروس، ابتداءً من الاعتراف بالفضل وردّه لأصحابه، ثم إسقاط الدروس المستخلصة على الحاضر. لذلك، يطالب بسنّ القوانين والعمل على تحقيق مستقبل واعد في إطار تحالف مشترك، وذلك من خلال الدور المحوري لبلده إسبانيا الذي يدعوه إلى تفعيله رسمياً. تعتمد هذه المراجعة على الطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2014، عن المركز القومي للترجمة في القاهرة، والتي جاءت مباشرة عن لغته الأصلية. ومن محاور الكتاب الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل)، أسرد في مقتطفات ما جاء في فصول الكتاب العشر، وباقتباس يخدم النص (مع كامل الاحترام لحقوق النشر): يتطرق المجريطي ابتداءً إلى الخلفية التاريخية التي شكلّت إسبانيا الحالية. فعلى الرغم من العلاقات الوطيدة التي جمعت بين إسبانيا في الماضي، بحكم موقعها الجغرافي، وبين شعوب الأمم المختلفة كالفينيقيين واليونانيين والقرطاجيين والونداليين والجرمانيين، إلا أنها لم تترك أثراً كما فعل الغزو الروماني والفتح الإسلامي.. أثراً لا يُمحى عن هويتها. فبينما ورثت إسبانيا عن روما اللغة اللاتينية ونُظم أدبية وفنية ودينية وقانونية وسياسية، فقد انصهرت في ثقافة إسلامية موحَّدة على اتساعها من الهند شرقاً حتى الشمال الأفريقي غرباً. يقول الكاتب معقّباً على هذا الأثر: «لقد شكَّل هذا التراث الثقافي لكلتا الحضارتين جزءاً من هويتنا المزدوجة»، وهي الهوية التي جاء الكتاب للبحث عنها. وعلى الرغم من أن السيطرة العربية آنذاك كانت سمحة مقارنة بالسيطرة الرومانية، إلا أن التعصب الديني الذي أجج أواره الصليبيون في العصور الوسطى جعل كل فضل أداه المسلمون في إسبانيا ولمدة ثمانية قرون يُنسى وبإجحاف متعمد! يُكمل المجريطي وهو لا يزال يشير إلى الهدف من وضع الكتاب: «وبمجرد طرد آخر الممالك الإسلامية من إسبانيا بعد سقوط غرناطة، بقي أثر لا يمحى لهذه الحضارة المميـزة من خلال المظاهر الفنية والأدبية واللغوية والثقافية التي ورثناها عنهم». لذلك «فعلى إسبانيا أن تستيقظ من هذه الفترة الطويلة من السبات، التي امتدت منذ 1492م حتى وقتنا هذا، وأن تستعيد هـذه الهوية الغائبة. عبر سلسلة مـن الإجراءات، يجب أن تعود إسبانيا إلى المصير الذي منحه الله لها دون أن تتنازل عن كينونتها ولا عن المسؤولية المنسوبة إليها، وذلك لثروتها متعـددة الثقافات، فعليها أن تكون الحكم والوسيط للتفاهم بين الشرق والغرب». يوضح الكاتب أنه اعتمد في طرح الفكر العقائدي الإسلامي على جهود الشيخ أبو الأعلى المودودي في تفسير القرآن الكريم وتحليل نصوصه، بموضوعية واحترام كبيرين لتعاليمه وللتقاليد الإسلامية، منحّياً في ذلك أي رأي أو شعور خاص. وهو في هذا لا يستبعد إثارة الجدل بين طبقات المجتمع الإسباني على اعتبار أن عمله هذا ما هو إلا انحرافاً إذا تم تناوله بعيداً عن الموضوعية، أو اعتباره بمثابة فتح إسلامي جديد. يتحدث الكاتب في الفصل الأول الذي جاء كمقدمة عن الظروف التي كانت تسود شبه الجزيرة الإيبيرية والتي مهّدت للفتح الإسلامي، وتحديداً الحروب الأهلية التي دارت رحاها في المجتمع القوطي في ظل تفاوت طبقي مرير بين طبقة النبلاء وطبقة العبيد، الظروف التي لم تخف على المسلمين في الجانب المقابل للساحل الأندلسي ودفعتهم من ثم إلى شنّ هجوم عسكري عام 710م بقيادة القائدين موسى بن نصير وطارق بن زياد. ويذكر تاريخ شبه الجزيرة الإيبيرية قبائل (الوندال) التي احتلتها لفترة لم تدم طويلاً بعد طردهم من قبل القوط، وهي القبائل التي اشتق العرب منها اسم (الأندلس).