15 سبتمبر 2025

تسجيل

"عوضية سمك" وهن

31 أغسطس 2015

قبل ثلاث سنوات دلفت لمطعم يقع في حي الموردة أحد أشهر أحياء العاصمة الوطنية أم درمان بالسودان وقبل أن نتناول وجبتنا من أسماك النيل الشهية دخلت عوضية تكاد تغادر الستين عمراً تتكئ على عصا وترتدي ثوباً فضفاضاً وعلی رقبتها تتدلي مسبحة حباتها أشبه بالعقيق الأخضر.. طلبت من الجرسونة أن تبلغها رغبتي تجاذب أطراف الحديث معها وما أن هممت أن اترك لها الكرسي الذي أجلس عليه باعتبار حالتها قالت لي أنت ضيفتي وأنا تعودت على خدمة نفسي بنفسي... منذ طفولتي أصبت بشلل الأطفال ولظروف أسرتي المُعدمة اعتمدت على نفسي... قلت لها يطلق عليك البعض الملكة وأخرون ست السمك.. ضحكت وقالت كنت قبلاً ست الفول والتسالي وأحياناً بايعة الطعمية وأم الأيتام وو... كناية عن امتهاني لمهن شتی طلباً للرزق الحلال ومواجهة متطلبات أسرتي. سألتها كيف تستطيعين إيفاء حاجة المحتاجين الكثر الذين يطرقون أبوابك اعتدلت في جلستها: لا أعطي أموالاً ولو كنت أملك جبلاً من النقود لنفد لكني أنور لهم طريقهم للاعتماد على أنفسهم من خلال أعمال بسيطة تتناسب وقدراتهم وأرعاهم حتى تتطور وتكبر ودايماً استدعي تحربتي حيث انطلقت من الصفر وأقوم بالمساهمة في الزيجات الجماعية وسط ذوي الاحتياجات الخاصة وفتحت مشغل لتعليم الفتيات فن الخياطة والتطريز حتى بناتي الطالبات بالجامعة يقمن بأعمال بعد رجوعهم من الدرس.. ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بقضية فتيات سودانيات عاملات منازل تعرضن لإساءات لدى كفلائهم وتدافع نفر كريم من الجالية بمدينة الجوف بالمملكة العربية السعودية لتسديد مستحقات الكفيل وإخراجهن من السجن... قدمت تجربة عوضية سمك كنموذج مضيء يماثل كثيراً من التجارب التي لا تعد ولا تحصى لنخلات سودانيات طرقن أبواب العمل بالبلاد وابتكرن أساليب طموحة لكسب العيش الشريف وستر الحال دون تطلعات غير واقعية كالتي ينسجها البعض في عالم الاغتراب ويصوره بأنه جنة الفردوس.. كل الأعمال لها إيجابياتها وسلبياتها ومحيط وبيئة العمل في كل أنحاء العالم تتفاوت فيها إنضباط الأنظمة والقوانين واللوائح ما بين منصفة لظالمة ومجحفة أحياناً فما بال الخدمة بالمنازل التي لها محاذيرها خاصة لمن يدلف إليها دون دراية بطباع مخدميه وسلوكياتهم.. حدثتني أم محمد أن والدتها ساعة الضحی كانت تجمع كل العاملات بمنزلهم الكبير وتمنع أي فرد من الأسرة تكليفهم بأعمال مهما كانت ضرورتها باعتبار تلك الساعة لهن للاستجمام لذلك شببنا ونحن نعطي العاملة حقها ونحترم إنسانيتها ووو... الجاليات الأسيوية التي امتهنت أعمال المنازل منذ القدم بدول الخليج لا تتسرب فرادى بل وفق عقودات مؤثقة بين وزارات العمل ببلادهن ودول الاستخدام بعد أن تكون العاملة نالت قسطاً من التدريب يشمل حتی الزي المناسب وطريقة التعامل لحفظ حقوقهن المادية والإنسانية.. الطموح أمر مشروع للجميع ولكن قبل خوض التجربة يجب التفكير العميق وإجراء حسابات تضع سقف الطموح في مقاساته الحقيقية وقبل أن نقذف الأخرين بالحجارة نمهد الطريق لخطواتنا لكي لا ننزلق لمتاهات عميقة.. همسة: القناعة كنز لايفنى وهناك بون شاسع بين الطموح واللهث.