30 أكتوبر 2025
تسجيل"هل تؤمن بالحب" ؟ سأله الوزير بنبرة مُلْغِز ه ... رفع رأسه من بين كومة الأوراق التي كان يضعها على طاولة سعادته ، مبتلعاً ريقه فأجاب بذهول: " نـــ .... نــــــ .. نـــعم طال عمرك". فرمقه الوزير بنظره ثم قال: "الحياة لا تخلو من الحب، فبالرغم من مرارتها، إلا أن مذاق العسل لا بد أن يسري في أفواهنا يوماً ما، فلا يستطيع الإنسان أن يعيش بلا حب، حب قريب ... حب الأهل ... حب ما نملكه ... وأيضاً حب العمل ، أما الأخير فهو من الأساسيات، فمن لم يُحب عمله فلن يُنجز وإن أنجز فلن يشعر بطعم النجاح، أو يتذوقه بتهلل"! صمت لوهلة وهو شارد الذهن ماداً بصره على قلمه الملقى على ورقة حائرة تنتظر من يعطف عليها بالتوقيع أو النفي دون أن يتم تركها معلقة، شاركته ذلك الصمت والشرود ... وكلٌّ له ما يبرر صمته وشروده. "انظر إلي جيداً ... وتأمل أطراف حياتي وأبوابها ...وسر في الطريق الذي سلكته، فلقد واجهتني العثرات وأرهقتني النكبات، وجرعتني الحياة من مرارتها، ولكن ... بالصبر دحرت كل ما واجهني، وأصبحت في هذه الحياة كالحكاية، أنا مؤلفها وبطلها، فكل يرسم طريقه ... وأنا رسمته ونثرت عليه ألواناً عدة، فوصلت إلى هذا المكان بجدارة"! قال سعادته. ثم أخرج علبة خشبية فخمة من درج طاولته، فتناول سيجاراً قاطعاً رأسه بأناة فأردف مكملاً حديثه: "شاهد فخامة هذا المكتب وهذا الكرسي الذي أجلس عليه، تأمل ترحيب الآخرين بي وخضوع البقية، وكل أمر يصدر مني فهو مُطاع، فهذا أخذته بعرق جبيني، وجهدي ودأبي، فما الذي تبقى ما طمحت إليه وربحته؟ بينما يستمع سكرتيره إلى هذا الكلام المرصع بعبارات الفخر بمكانته، انفجرت قنبلة صغيرة في رأسه أخرجته من خجله فرد: "لا ينكر المرء أن سعادتك اتخذت من هذا الكرسي هواك، تجلس عليه وسط مكتباً شاسعاً، وحولك من يخدمك ويطيعك وغيرك محشورون في مكتب صغير لا يكاد ضوء الشمس يدركه. حاشيتك الموقرة هي من حُظيت بفضلك وكرمك ومناصبك! وأما الموظفون البسطاء، فهم لا يحصلون على ما يريدون إلا بشق الأنفس بسبب تزاحم الحاشية في طريقهم وعرقلة مسيرهم، فعن أي جهد وأي دأب تتحدث يا سعادة الوزير؟ جهدك عندما تترك أصحاب أرذل الأخلاق يعتلون المناصب؟ دأبك عندما تحرم من يستحق تلك المناصب وتُبقيهم على ما هم عليه؟ هناك من يختزن ضغنه في قلبه، ومن هم من يدسون لسعادتك السم في العسل دون أن تُدرك، ولا زالوا باقين على عهدهم في تبديد معنى العدالة والمصلحة العامة، ناهيك عن ناثري الدموع ترسيخاً لمبدأ "العيارة" وتعزيزاً لقواعد "الجمبزة" وتوطيداً للعلاقات مع "أسوأ البشر" وأنت من تقوم بمسح هذه الدموع بمناديلك رعونةً، لا سيما سعادتك الخاسر وهم من أينع الثمر! فأين طموحك من القضاء على مثل هذه الأفعال الدنيئة والانتصار لمن جُحد حقه وظُلم؟ مجتهدون يعملون بإخلاص دون أن يُمنحوا كلمة "شكراً"، وآخرون تحركت فيهم الغيرة على المصلحة العامة فأثابهم الله لنطقهم بالحق، وفي المقابل يُقاتلون ويُحاربون من قبل حاشيتك وهم أسوأ البشر؟ ألهذا وصل الطموح، ولا ضير مما قد يحدث لي جرّاء قولي هذا يا سعادة الوزير فليس لدي ما أخسره، والاستقالة لا تزال في جيبي!!". خرج سكرتير سعادة الوزير من ذلك المكتب الفخم وفي انتظاره ملفه الوظيفي أمام الباب حاملاً حقائبه استعداداً للرحيل، وأما الورقة الحائرة التي بين يدي سعادته فقد انتقلت إلى رحمة الله تعالى بعد أن قُطعّت أحشاءها ورميت في أقرب قمامة.