19 سبتمبر 2025

تسجيل

وجه آخر للعيد افتقدناه منذ زمن طويل

31 أغسطس 2011

تسقط أوراق الشهر الكريم ورقة إثر ورقة، تغرب شمس أيامه الأخيرة أو تكاد، حزن يملأ قلبك وجوانحك، لفراق عزيز طالما أنست بأجوائه الروحانية، وسكن قلبك إلى نفحاته الربانية، وعشقت كل لحظة من لحظات عطائه وجوده، كانت مترافقة مع كل دمعة سكبتها في جوف لياليه وكل آهة صدرت عنك في محاريب طاعته مع حضور قلب، تعز فيها النفس في ذل السؤال.. وأنت على باب كريم. ببابك يا مهيمن قد وقفنا نعز النفس في ذل السؤال تفتح لك أبواب من الخير والكرم والعطاء لا حد لها، وتنال عطايا ومنحا لا عد لها، فأنت في شهر كريم، وتغترف من خزائن كريم. عشر ليال في آخره تتحرى أن تدرك فيها ليلة خير من ألف شهر، عمرة تعدل حجة، باب للصائمين اسمه الريان، زيادة في النوافل كصلاة التراويح، غفران ما تقدم من الذنوب إن صمت نهاره وأحييت وقمت ليله. إن القلب ليحزن وأن العين لتدمع وإنا على فراقك يا رمضان لمحزونون.. كيف لا نحزن ونحن سنخسر كل هذه الهدايا والجوائز، ونغادرها بعد أن تعودنا على فيوضات عطائها وبركات رحماتها، وبخاصة مع خشية من ألا نتعرض لنفحاتها العطرة في مواسم قادمة فيما أدركنا الموت وقبضت أرواحنا، لذا كان من دعاء الصالحين سؤال المولى أن يعيد رمضان عليهم أعواما عديدة وأزمنة مديدة. ومن حزن إلى حزن، وإن كان من نوع آخر، نستقبل الوافد الجديد، العيد، رغم أنه أصلا موسم للفرح والسرور والشكر لله، وكأنما قدرنا أن نظل نردد مع المتنبي: عيد بأية حال عدت يا عيد لما مضى أم لأمر فيك تجديد. بواعث الحزن والأسى كثيرة متعددة، فمن مجاعة تفتك بأرواح إخوة لنا في الصومال والقرن الإفريقي، وبخاصة الأطفال الرضع، والشيوخ والنساء، فلا نحن في زمن عمر بن عبدالعزيز الذي خلت فترة حكمه الراشدة من فقير يستحق الزكاة، فترة لم يجع فيها مسلم، أو حتى طائر أو حيوان دولته، حتى قال رضي الله عنه: انثروا القمح في رؤوس الجبال، حتى لا يقال جاع طير في بلاد المسلمين. ولا نحن في زمن عمر بن الخطاب العادل، زمن الإيثار والتكافل، وهو الذي قال في عام الرمادة عندما بلغ القحط في بلاد المسلمين مبلغه، ومعدته تقرقر من الجوع "قرقري أو لا تقرقري.. والله لن تشبعي حتى يشبع أطفال المسلمين". نحن في زمن تحتار أمهات في دول متخمة في اختيار الطبق الذي تقدمه أم لابنها بينما تحتار أم صومالية في اختيار الابن الذي تعطيه القليل من الطعام ليموت الآخر أمام عينها، على حد تعليق لأحد الدعاة على المجاعة الذي سببه القحط في القرن الإفريقي. ويموت قلبك كمدا، عندما تولي وجهك صوب بلد عربي يصوم أهله على الموت ويفطرون عليه، ولا يكاد يمر يوم دون أن يسقط فيه عشرة أو عشرون من الضحايا المدنيين، لا شيء سوى أنهم يطالبون بحريتهم وكرامتهم، معاملة وحشية وقمع ومشاهد دموية، ومناظر إذلال للناس، بالبساطير والأحذية، يجبرونهم أثناءها على تمجيد الفرعون رغما عنهم، وانتقاما منهم وترديد شعارهم الممجوج "بشار وبس". لمثل هذا يموت القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان.. كما قال أبو البقاء الرندي في رثاء الأندلس. لكن هذا لا يمنع من القول إن رمضان الذي تصرم قبل قليل، لم يشأ أن يرحل دون أن يدخل بشرى سارة إلى قلوبنا، أصبح بها عيد الفطر هذه المرة عيدين.. عيد بفرحة المسلمين بفطرهم وشكرهم للنعم من جهة، وعيد بنصر تحقق على نظام دكتاتوري بشع جثم على صدر شعبه أكثر من أربعة عقود من الزمن، فشفى الله بزواله قلوب قوم مؤمنين من ليبيا، ومن شعوب العالم العربي والإسلامي، بعد طول انتظار، وأحيا الأمل بزوال طواغيت آخرين، كانوا يظنون ـ زيفا ـ أن انتصار الثورات توقف عند مصر ولن يبرحها بعد ذلك، ولكن الله خيب فألهم. لكثرة ما تعرض له هذا الجيل من أبناء هذه الأمة من مآس ونكبات ومصائب على مدى عقود فإن الأعياد لم تكن سوى محطة لاجترار الأحزان، وتذكر الآلام، لا نجد فيه ما يفرح القلب أو يسر الخاطر إلا ما ندر، والنادر لا حكم له. لكن برغم الجراح لا بد من القول إن ثمة روحا جديدة تسري في جسد الأمة وشعوبها تتحرك لاستعادة كرامتها وتنتفض لنيل حريتها المفقودتين، واستشراف مستقبل مختلف تستعيد فيه ماضيها الحضاري ومكانها اللائق بين الأمم إن شاء الله، وهو ما يجعل للعيد هذه المرة طعما مختلفا افتقدناه منذ زمن طويل. نسأل الله أن يبرم لهذه الأمة أمرا رشدا يعز فيه أهل الحق من الأصفياء الخيرين ويذل فيه أهل الباطل من الجبابرة والظالمين، وأن يحقن دماء المسلمين، وأن يجنبهم بلادهم الفتن، وأن يجعل بلادهم واحة للاستقرار والسلام والتقدم والازدهار.