20 سبتمبر 2025
تسجيلبعد 308 سنوات على وفاته، لا يزال الإمبراطور السادس للسلطنة المغولية في الهند السلطان أبو المظفر محيي الدين محمد أورنكزيْب (آسر العالم) مالئ الدنيا وشاغل الناس، ففي أغسطس/آب من عام 2015، نجح الحزب الهندوسي المتطرف (جاناتا بارتي)، بزعامة رئيس الوزراء الحالي نارسيما مودي، في تغيير اسم شارع أورنكزيب وسط العاصمة نيودلهي، ومنحه إلى الرئيس الهندي السابق أبو الكلام آزاد الذي توفي يومها، وأتى منحه هذا الشارع نظير خدماته للهند، في صناعة قنبلتها النووية التي أطلقت عليها تسمية (ابتسم بوذا)، بالإضافة إلى دوره في بناء مشروعها الصاروخي. اليوم تعاني الهند من أزمة هوية حقيقية، فما أراده لها الآباء المؤسسون في هوية علمانية تجمع الجميع، مهددة اليوم بهندوسية متطرفة لاسيما مع وصول حزب جاناتا بارتي الهندوسي المتطرف إلى السلطة، والإعلان عن عدائها المزمن والعلني مع الدين الإسلامي، ما دام يرى في نظرياته العقدية أن مجاله الحيوي يصل إلى الجزيرة العربية. ربما كان باني الدولة الهندية الحديثة جواهر لال نهرو قد حلم بهذه اللحظة، ولكن لم يجرؤ أن يقدم عليها، والدولة الهندية العلمانية حديثة الولادة، وذلك منعاً لإرسال إشارات مبكرة على هندوسية الدولة، وهندوسية مؤسسيها، بيْد أن مدلول كلامه الذي سطره منذ تلك الفترة يشير إلى رغبته في رؤية هذه اللحظة، يقول نهرو: (ما يُسمى بالإمبراطور العظيم أورنكزيب، لقد أراد إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في حكمه، ولكنه لم يوقف الساعة فقط وإنما كسرها). حديثنا في هذا المقال عن شخصية استثنائية أثارت إعجاب خصومها، وظل إرثها يتفاعل حتى بعد ثلاثة قرون، كما رأينا في تغيير اسم الشارع الحامل لاسمها، مما يعكس مدى التغيير العميق والجوهري الذي أحدثته في زمانها ومكانها، وهو حيز ضخم، حيث كانت تعد أكبر إمبراطورية حينها، لحكمها مائة وخمسين مليون نسمة، يُضاف إلى تأثيرها العميق حجم الإنجازات التي أحدثتها في فترة حكم طويلة امتدت نصف قرن تقريباً. لكن.. مع تنائي الجغرافيا الهندية عن المنطقة الإسلامية الحية، ممثلة بالخلافة العثمانية مركز زلزال الفعل الإسلامي يومها، إضافة إلى المعركة التي وقعت في أنقره بين بايزيد الأول الذي يسمى بالصاعقة، وأجداد أورنكزيب، فقد ظلت تلقي بذيولها وتأثيرها على نفسيه الجيل اللاحق، ولو من باب العقل الباطن. فقد شكّل إذلال المغول لـ بايزيد يومها بأسره مع كبار قادته العسكريين وموته صبراً متأثراً بكمده وحزنه على ما حلّ به، شكّل خزان غضب وحقد صامت بين الخلافة العثمانية والمغولية، وظلت آثاره لقرون، فدفع الأخيرة إلى أن تكون أقرب إلى الدولة الصفوية منها إلى الخلافة العثمانية، أضف إلى ذلك قربها الجغرافي من إيران، وحالات التزاوج التي دأب عليها سلاطين المغول من الفارسيات يومها، ويُذكر أن الدولة الصفوية اشترطت على المغول قطع العلاقات مع العثمانيين كي تقف معها في وجه خصومها الأفغان وغيرهم، ولعبت الأقلية الشيعية دوراً مبكراً في اختراق الدولة المغولية كذراع صفوية، إلى أن أتت شخصيتنا التي نحن بصددها فقلّصت نفوذهم، وأخمدت عدة تمردات لهم، فصدق القول على الإمبراطورية المغولية بأنها خلطت عملاً صالحاً وكثيراً سيئاً. جاء القائد أورنكزيب ومعنى اسمه (آسر العالم) في هذه البيئة ليكون بحق غاسل ما حمله المغول من أخطاء وخطايا وأدران، في شبه القارة الهندية على مدى قرون من حكمهم، وللأسف فإن هذه الشخصية المميزة والفريدة لم تنل حقها في الدراسات العربية، فكان بحق وحقيقة من أنصار النبي جهاداً، وقمعاً للتمردات الداخلية، ونشراً للعلم وقمعاً للبدعة، ودثراً لدين أكبر الذي بدأه جده السلطان أكبر حين لفّق ديناً سُمي باسمه، سعى من خلاله للجمع بين الإسلام والهندوسية والأديان الهندية الأخرى وما أكثرها. أشعر كشخص قضى شطراً من حياته في شبه القارة الهندية، دارساً وإعلامياً بديْن كبير في رقبتي، لتلك الشخصيات المجهولة والفذة، ولعل نبْش تلك الملفات المجهولة، يشد شبابنا إلى حقيقة غائبة، وهي أن الجيل القرآني الفريد للصحابة ليس مرحلة تاريخية عابرة، وإنما في التاريخ المعاصر ثمة من تأسّى بهم، وجدد سيرتهم، كشخصية أورنكزيب رحمه الله، سلطان العادلين، الذي أطلق عليه الشيخ الجليل الراحل علي الطنطاوي رحمه الله الخليفة الراشد السادس.