29 أكتوبر 2025

تسجيل

صباح الكويت في قلوبنا

30 سبتمبر 2020

عندما يرحل الطيبون فإن من حقنا أن نحزن، وعندما يكون الفقيد بحجم صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد فإننا يجب أن ندعو له بشدة. لا يختلف اثنان في تقدير ما قدمه الأمير الراحل - رحمه الله - فهو صمام أمان الخليج، وهو الذي رغم ظروفه الصحية إلا أنه كان أول من يبادر، وأول من يفزع لحل أي خلاف خليجي أو عربي أو دولي، كان رجل المرحلة بحق، أحبه الصغار قبل الكبار، له في كل زوايا الكويت ذكرى، له في كل بيت خليجي من يدعو له بالرحمة والمغفرة. كان بحق البلسم في وقت تكاثرت فيه الجراح، كان الدواء عندما يستشري الداء، من قلب الكويت إلى وجدان كل قطري له مكانة ومعزة خاصة، أهدانا رجاحة عقله وحكمته وأهديناه محبتنا وتقديرنا العظيم. سمو الشيخ صباح الأحمد - رحمه الله - له في زوايا قلوبنا في قطر مكانة خاصة لا تتزحزح، كان الأقرب عندما تكاثرت علينا المطامع، كان الأول عندما غدر الجار، كان الصادق عندما كثر الكذابون. أمس فجعت الأمة العربية والإسلامية برحيل رمز السلام والإنسانية، سند المحتاجين والضعفاء في كل مكان، وحامل لواء حل الخلافات في الخليج والدول العربية وتحقيق التضامن، والساعي بالخير بين الناس. لم يكن رحيل صاحب السمو الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح - رحمه الله -، فقدا للشعب الكويتي وحده، وإنما فقدا للأمة بأسرها وللإنسانية، وللشعوب التي لطالما وجدته إلى جانبها في الملمات وحين العسر وفي الأيام العصيبة. لقد عبر حضرة صاحب السمو الشيخ تميم بن حمد آل ثاني أمير البلاد المفدى، في نعيه للراحل بأننا فقدنا برحيله قائدا عظيما وزعيما فذا، اتسم بالحكمة والاعتدال وبعد النظر والرأي السديد، كرس حياته وجهده لخدمة وطنه وأمته، والدعوة إلى الحوار والتضامن ووحدة الصف العربي، والدفاع عن قضايا أمته العادلة. اليوم صعب على الشعوب وعلى المستضعفين حول العالم، قبل القادة والزعماء، إذ كان سمو الأمير الراحل البلسم للجراح، وكان الصديق وقت الضيق، وكان الرفيق بهم يوم جار عليهم الظالم وقلب لهم ظهر المجن، وكان اليد الحانية التي خففت عنهم المعاناة أيام النكبات وحين الكوارث. هل ينسى السوريون وقوفه إلى جانبهم وقت المحنة؟، أم ينسى العراقيون كيف حشد لهم العالم في مؤتمر إعادة الإعمار؟ وهل ينسى الفلسطينيون رحلته الطويلة معهم في السراء والضراء، وهو يدعم الموقف والقضية، ويقدم العون للشعب الفلسطيني، ويساهم في توفير احتياجاته؟ من ينسى من أهل اليمن أياديه البيضاء، وهو يخفف عنهم تداعيات الحرب والأوضاع الإنسانية؟ وأهل شرق السودان هل ينسون؟ وغير هؤلاء كثيرون في مشارق الأرض ومغاربها، ممن كان لهم سموه ظهيرا في أيام الشدة قبل الرخاء. الشعوب لا تنسى.. نعم الشعوب لا تنسى أبدا، يدا امتدت إليها بالخير وقت الحاجة. وحين تم اختيار سموه - رحمه الله - قائداً للعمل الإنساني، لم يكن ذلك من فراغ، وإنما تقديراً عالمياً من قبل الأمم المتحدة لمبادراته الإنسانية ودوره في الوقوف إلى جانب شعوب العالم، وقد صدق الأمين العام السابق للأمم المتحدة السيد بان كي مون وهو يقول في حفل تكريم سموه إن "جهود الشيخ صباح الأحمد مكنت الأمم المتحدة من مواجهة ما شهده العالم من معاناة وحروب وكوارث في الأعوام الماضية"، وأن "الكويت أظهرت كرماً استثنائياً تحت قيادة الشيخ صباح الأحمد، ورغم صغر مساحة البلاد إلا أن قلب دولة الكويت كان أكبر من الأزمات والفقر والأوبئة". اليوم أصبحت الكويت مركزا للعمل الإنساني، بفضل ما قدمه سموه من أعمال جليلة ستظل خالدة في ذاكرة التاريخ، وفي مسيرة العمل الإنساني والخيري. لكن الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح أمير الكويت الراحل لم يكن أميرا للإنسانية وقائداً للعمل الإنساني في العالم وحسب، بل كان أيضا أميرا للسلام وللمصالحة والحكمة، وفي كتابه صفحات ناصعة من جهود جليلة وخيرة من أجل لم الشمل بين الفرقاء، ومن أجل التضامن العربي، ومن أجل التصالح بين الأشقاء. وفي كل محطة من محطات الانقسامات والشقاق بين أبناء الأمة، كان لسمو الأمير الراحل سهم وافر في رأب الصدع، وفي حل الخلافات ومعالجة الأزمات، بما عرف عنه من حكمة اكتسبها من سجايا وصفات أصيلة ومتوارثة وصقلها من خلال سجل طويل في العمل الدبلوماسي، ففي الستینیات من القرن المنصرم، سعى إلى لم شمل الأشقاء وحل الخلافات العربية - العربية، عندما شارك في اللقاء الذي نظمته الأحزاب المتصارعة في الیمن مع ممثلي مصر والسعودیة لوضع حد للحرب الأھلیة الیمنیة، ولحل الخلاف بين الرياض والقاهرة، وعندما تدھورت العلاقات بعدها بین الیمن الجنوبي واليمن الشمالي أثمرت جهود الأمير الراحل في 1972، توقیع اتفاقیة سلام بینهما. وفي عام 1968، أسهمت الخارجية الكويتية تحت قيادته بجهود وساطة لحل قضية المطالبة الإيرانية بالبحرين، وانتهت باستقلال البحرين عام 1971، وعقب ذلك بعام واحد، بذل جهودا للوساطة من أجل الوصول إلى حل للنزاع الحدودي بين العراق وإيران. وفي عام 1970، شارك في جهود تسوية الصراع المسلح الذي اندلع بين الجيش الأردني وفصائل منظمة التحرير الفلسطينية، كما سعى في عام 1971 إلى حل النزاع بين باكستان وإقليم البنغال. كما أسفرت جهوده من عام 1980 إلى 1984 عن توقيع سلطنة عمان والیمن اتفاقیة خاصة بإعلان المبادئ، لإنهاء حرب إعلامیة وإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، وفي 1988، اختارته الجامعة العربية ليترأس اللجنة السداسية لتحقيق التوافق للأطراف المتنازعة في الحرب اللبنانية الأهلية. كل هذا وغيره من أعمال باهرة وجليلة، تسجل للأمير الراحل الذي لم يترك موضعا للخير إلا طرقه. لكن هنا، في قطر، سيتذكر الناس له على الدوام دوره في الأزمة الخليجية، ووساطته الخيرة للم شمل الشعوب الخليجية. تتذكر قطر للأمير الراحل، وحكيم المنطقة، أنه حين اندلعت الأزمة الخليجية، هب سموه، من فوره لرأب الصدع ولم الشمل الخليجي، قائلا: إن وحدتنا الخليجية هي "قدرنا الذي لا مفر منه"، وأكد أن وساطة الكويت ليست مجرد وساطة تقليدية يقوم بها طرف بين طرفين، قائلا: "نحن لسنا طرفا بل طرف واحد مع شقيقين"، سيتذكر الشعب القطري وشعوب الخليج أن سموه كان مدركا لخطورة الأزمة على المنطقة بأسرها، وهو يتنقل، رغم سنوات عمره، في زيارات مكوكية بين العواصم الخليجية، سعيا بالخير وحاملا لواء السلام والحكمة، وهو يؤكد مرارا إيمانه وثقته بقدرة القادة وحكمتهم على تجاوز الأزمة الخليجية. سيذكر العالم للأمير الراحل أنه تمكن من تجنيب الخليج وشعوبه، ما كان سيحدث بعد الحصار من غزو خطط ودبر له البعض، لكن إرادة السلام والخير انتصرت على نوايا الشر. رحل حكيم الأمة ورجل السلام الأول صاحب المواقف المعتدلة والسياسة الهادئة والمتوازنة، الذي لم يتأخر يوما عن دعم وحدة الصف العربي والخليجي. ستذكر قطر أن سمو الأمير الراحل، كان إلى آخر أيامه، يسعى لخير شعوب الخليج ولخير المنطقة واستقرارها، وأنه كان بحق أمير الإنسانية والحكمة والسلام وحامل لواء المصالحة وهموم الأمة. اللهم تغمده بواسع رحمتك ومغفرتك وأسكنه فسيح جناتك مع الصديقين والأبرار!. اللهم اجزه خير الجزاء عما قدم من خير لشعبه ولأمته وللعالم!. "إنا لله وإنا إليه راجعون"