17 سبتمبر 2025
تسجيلظهور الدولة المدنية في أوروبا كان تعالياً على التمذهب الديني وليس على الدين نفسه. أي أنه خروج إلى دائرة أوسع من الفهم الديني، فالصراعات التاريخية الدينية بين البروتستانت والكاثوليك كانت تمثل صراعاً بين التمذهب داخل الدين الواحد والانتصار الحقيقي الذي حققته أوروبا كان في الخروج من هذا النطاق الضيق ذي الحدود الدموية إلى نطاق واسع وأشمل يتمثل في أبعاد الثقافة الدينية الشاملة مهما كان مسماها. خروج المواطنة كأساس للدولة الحديثة في أوروبا بُعد ديني، وبروز دولة الحقوق والمساواة بُعد ديني كذلك، وظهور دولة العدل والقانون بُعد ديني أيضاً. لا أعتقد أن أوروبا تركت الدين خلفها ببروز دولة المواطنة، ولكنها انتشلت الدين من حدوده الضيقة إلى أبعاده الإنسانية. نحن في عالمنا الإسلامي بحاجة فعلية إلى الوصول لنفس النتائج، ولكن ليس بالضرورة نفس الأساليب أو الطريقة الموصلة لذلك التي اتبعتها أوروبا، ومع ذلك يصعب القول إنه لا يبدو أن هناك خطراً واضحاً من الانجراف نحو الاقتتال المذهبي داخل الإسلام نفسـه. لابد من التأكد بأن تخفيف حدة التمذهب نحو تعميق فهم الثقافة الشمولية للدين هو الأساس وهو المطلوب وليس العكس، لابد من الإصرار والاعتراف بأن الدين جاء أصلاً لخدمة الإنسان ومصلحته وليس العكس. الخوف من انجرار عالمنا الإسلامي نحو آتون الحرب المذهبية الطائفية لم يعد خوفاً مرضياً بعد ما نشهده من أحداث في غير موقع من مواقعه. إن الثقافة الدينية الحقيقية لا يخرج منها إنسان مادام أصر واعترف بإنسانيته، وهو إن أذنب عاد، وإن ارتكب معصية أستغفر ولا يقتل آخر لشعوره بإنسانيته قبل كل شئ. ولكن التمذهب ضيق الأفق والخروج منه إذا ما أعتمد كمنهج للحياة قادم لا محالة والتصادم مع الغير قائم كذلك لأنه يلغي الفروق الفردية والخصائص الشخصية والاختلاف المشروع. عندما كان الإسلام قوياً كثقافة استوعب داخله التمذهب بأنواعه المختلفة؛ فالبعد الإنساني مهم هنا- أيه أهمية - بمعنى أن هناك ارتباطاً خطياً لشعور الإنسان بمكانته وقيمته وبين نظرته لمذهبه ودينه، وكلما قل الشعور بذلك ضاقت نظرته وتشرنقت داخل هذا المذهب أو ذلك. فإذا كانت أوروبا استطاعت أن تبني دولة مدنية بتجاوز التمذهب نحو الثقافة الدينية الأوسع ولو بثمن غالٍ، فإن أمتنا العربية والإسلامية كذلك في حاجة إلى مثل هذا التجاوز، ولكن العصر لم يعٌد يستوعب أو يتحمل الثمن الذي دفعته أوروبا مقابل ذلك؛ حيث كانت في ذلك الحين هي العالم. أما نحن فإننا اليوم جزء من العالم فقط ولسنا الجزء الأثمن الذي يصعب على العالم أن يعيش بدونه كبشر على الأقل لا كجغرافيا.. وهنا تكمن المفارقة. [email protected]