10 سبتمبر 2025
تسجيلكان من عادة الأستاذ نجيب محفوظ طوال حياته أن يقرأ كل الصحف الصباحية .. وكان يحرص على ذلك باعتباره مشاركة فاعلة فى الحياة العامة .. ولكنه فى أواخر سنوات عمره لم يكن يستطيع ذلك نظرا لضعف بصره ومشاكل كثيرة فى عينيه إضطرته لإجراء عدة عمليات جراحية .. ولكنه فى النهاية استسلم لإرادة الله وإستعان ببعض الأشخاص لقراءة الصحف له بينما هو ينصت بإهتمام بالغ .. ولحسن حظى كنت واحدا من هؤلاء السعداء الذين إستعان بهم الأستاذ . وعندما ذهبت إلى الأستاذ نجيب محفوظ فى أحد الأيام بمكتبه بالقسم الأدبى بجريدة الأهرام بعد حصوله على جائزة نوبل بحوالى عام بناء على موعد سابق حيث كان من المقرر أن أقرأ له الصحف فى ذلك اليوم بالتناوب مع زميلى وصديقى الحاج محمد صبرى السيد سكرتير القسم الأدبى بالأهرام .. كان قد سبقنى أحد كُتاب السيناريو الذى ربما تأخر قليلا أو تباطأ لدى الأستاذ ليحظى بأكبر نصيب من وقت أديب نوبل .. رفع الأستاذ عينيه اللتان أصبحتا ضعيفتين .. وإبتسم لى لأنه تذكر موعدى معه وأشار لى بالجلوس .. وإلتفتَ إلى كاتب السيناريو ليقدم له نصيحة يُنهى بها اللقاء.. وقال : - على من يتولى تحويل نص أدبى إلى عمل درامى تليفزيونى أو سينمائى أن يدرس العمل الأدبى جيدًا .. ويستخرج المواقف الدرامية الموجودة به حتى يمكنه أن يستفيد منها ليخرج بأحسن نتيجة . والتفتَ إلىّ قائلا : - الأمر فى النهاية يعود إلى مدى موهبة كاتب السيناريو وثقافته . والقليل من الناس هم الذين يعرفون أن نجيب محفوظ نفسه قد كتب أو شارك فى كتابة سيناريو العديد من الأفلام السينمائية التى لاقت نجاحا كبيرا .. ومن بينها أفلام " شباب إمرأة " و " ريا وسكينه " و " لك يوم يا ظالم " و " الفتوة " و" أنا حرة " وأفلام وطنية عديدة من ضمنها " الناصر صلاح الدين " و " جميله بو حريد ". ونلاحظ أن كل هذه الأفلام كانت لكتاب آخرين .. فهل كَتب نجيب محفوظ بعض أعماله الأدبية للسنيما والتليفزيون ؟ .. والاجابة كانت لا .. قاطعة وكبيرة .. لماذا؟ عن ذلك يجيب الأستاذ : - " إن كتابة السيناريو والحوار فى هذه الحالة سيكون على حساب الإبداع الأدبى" . ولاشك أن النصوص المكتوبه للأديب الكبير قد تم تقديمها على شكل مسلسلات بأعداد كبيرة زادت على الثمانية .. وفى معظمها كان يسلط الضوء على عدد من القضايا التى تهم قطاعا عريضا من المثقفين وغيرهم .. وكان يدرك مدى تأثير الدراما على الجمهور وخاصة المرئية بعد انتشار التليفزيون . وقد قال أكثر من مرة فى مقابلاته مع وسائل الاعلام أن التليفزيون لديه الإمكانيات لتقديم الأعمال الأدبية أفضل من السينما .. حيث أن التليفزيون يسير فى نفس خط الرواية إلى حد كبير .. أما فى السينما فتكون الأفلام أقصر .. ولابد أن تكون مركزة .. فتضطر إلى حذف أجزاء كثيرة من النصوص الأدبية وتضيف أشياء كثيرة أخرى من عندها . كل ذلك يحدث تحت مسمى المعالجات الدرامية وقد يؤدى ذلك إلى متغيرات يكون من شأنها عدم توضيح خبايا النص الأدبى المكتوب وفكر الكاتب أو حتى تزيينه . ومن المعروف أن هناك تأثيرا متبادلا بين الإعلام والمجتمع من حيث التفاعل بين الفرد والرؤية المجتمعية .. وأن الإعلام فى محاولة منه لإرضاء الجمهور يلعب على بعض الأوتار التى ترغب فيها الجماعة من حيث تكريس القيم والمعتقدات التى يتبناها المجتمع فى وقت معين . ويشير نجيب محفوظ إلى المواصفات الواجب توافرها فى النص الأدبى المراد تحويله إلى عمل درامى ناجح إلى أنه يجب أن يتسم بالحركة والتعيير حتى يأتى مضمونه متجاوبا مع الناس ويكون ناجحا .. وأن يمس ما يهمهم . ويرى صاحب نوبل أن أفضل رواياته التى تحولت إلى أعمال درامية جاءت على يد كاتب السيناريو محسن زايد الذى كتب سيناريو " الثلاثية " للتليفزيون حيث تم تقديم جزءين منها هما " بين القصرين " و" قصر الشوق " ولم يُكتب للجزء الثالث " السكرية " أن يرى النور . وإذا أمعنا قراءة النص الأدبى للثلاثية فسنرى أن نجيب محفوظ يعطى المرأة دور المراقب للمجتمع والمتأمل لأحواله والراصد لكل ما يطرأ عليه من متغيرات رغم أن النص الأدبى قد رأى النور منذ نصف قرن حيث كان دور المرأه غير واضح وحركتها محدودة للغاية وفى إطار ضيق .. ولكن " أمينه " من خلال شرفتها المغلقة تغرق فى أفكارها وتأملاتها ونظراتها المتلصصة عبر الفتحات الضيقة فى شرفتها .. ومن خلال ما تستطيع أن تراه أو ترى جزءًا منه أو ما يصل إلى أسماعها وهى تنتظر عودة السيد أحمد عبدالجواد إلى منزله ليلاً .. ومن خلال سلوكيات الرجل التى لم تعرف وحدها حقيقة هذه السلوكيات وما يجرى خارج البيت ليلًا أو حتى نهارًا . وكانت هى الخط الدرامى الذى تبدأ به أحداث الثلاثية وتنتهى خلال ما يزيد عن الألف صفحة برحيل " أمينة " .. ؤالتى يرى بعض النقاد أنها نموذجًا للمرأة الحلم ويرى فيها البعض الآخر رمزًا لمصر من خلال تطور شخصيتها فى أجزاء الثلاثية . أما النساء من النقاد فيحلو لهن - من منظور النقد النسوى - رؤية أنها إهتمام الكتب بالجوانب الخفية فى علاقة المرأة بذاتها أو بالعالم الخارجى من خلال الترويج للغيبيات والتركيز على العلاقات المجتمعية خلال النصف الأول من القرن العشرين والتعبير عن الرؤى الفلسفية التى جسدت الصراع بين القوى المتضادة على المستوى المعنوى وأيضا المادى . وأخيرًا فإن أديب نوبل كان يقول لأصدقائه المقربين أن كتاب السيناريو يسألونه الرأى فى معالجاتهم لأعماله الأدبية إستنادًا إلى المبدأ الذى يعرفونه عنه .. وهو أن ما ينسب له هو النص الأدبى فقط .. ولكن فى مرات قليله ونادرة جاء له بعض كتاب السيناريو يسألونه الرأى والمشورة أو بالأحرى النصيحة - كما أسلفنا فى بداية هذا المقال - وكان يؤكد لهم أن ما يقوله لهم مجرد رأى وهم أحرار فى أن يأخذوا به أو لايأخذون . ولكن المعروف والمؤكد أن أديب نوبل لم يسبب لهم أى متاعب على الاطلاق .. فهل هى دبلوماسية العباقرة أم حكمة الكبار؟ إذا أردت الاجابة .. أرجوك عزيزى القارىء أعد قراءة المقال من البداية . وإلى موضوع جديد ومقال قادم بحول الله . هذا المقال إهداء للقراء الأعزاء بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيل أستاذنا العظيم نجيب محفوظ عن عالمنا .