17 سبتمبر 2025
تسجيلبادئ ذي بدء، علينا أن ندرك أن أهم مايميز النظام المعرفي العربي عموماً السائد هو أنه نظام ديني يتواطأ مع السياسة باستمرار ؛ فهو ليس وعياً خالصاً بالإنسان إلا بقدر ما يعكس ارتباط هذا الإنسان بمعتقد ديني يميزه عن المعتقدات الأخرى، حتى داخل الدين الواحد، ولذلك أسباب كثيرة منها عدم قيام عملية سياسية حقيقية داخل هذه المجتمعات دون ربطها أو استنادها على الدين. وثورات الربيع العربي الأخيرة تدل دلالة واضحة على ذلك، حيث لم تلبث حتى تحولت إلى شكل من أشكال الدين أو الصراع الديني. فالنظام المعرفي العربي هو انعكاس لصورة الزعيم أو الرئيس أو الملك المؤمن في ذهنية المجتمع، بل أن أول ما يهرع إليه الزعيم هو تصويره وهو يؤدي الصلاة، أو بادعائه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أيده في المنام، أو أنه رأى جبريل وأقرأه السلام وغير ذلك من الادعاءات التي كانت الأحداث الأخيرة في عالمنا العربي مسرحاً لها. فعلى الرغم من أن الإسلام دين التوحيد، إلا أن النظام المعرفي منذ البدء هو نظام شركي في حقيقته السياسية، وكل من يحاول الخروج من هذه الشركية يقصى أو يقتل أو يجرى التخلص منه بدعوى دينية في المقام الأول. لذلك يبدو أن الخروج من ثلاثية الاقتصاد والدين والقبيلة سواء العرقية أو العسكرية، أمر صعب للغايه، وهي ثلاثية انتهازية دينية في الحقيقة عبر التاريخ؛ حيث تجعل من الحكم والثروة والعرق اصطفاءً إلهياً. لذلك فالمجتمعات العربية في الأصل لا تبني نظاماً اجتماعياً بقدر ما تمارس أدواراً تنسجم مع النظام الاجتماعي القائم. من هنا ظهرت أزمة «النفاق العام» المستشري حقبة بعد أخرى وشكلاً بعد آخر بما يتناسب مع ظروف كل عصر وكل زمان. ومن هنا أيضاً برزت ظاهرة سيطرة «فقهاء السلطان» على الدولة العربية، بصفتهم حماة لاستمرار هذا الشكل من النظام المعرفي السائد بعيداً عن تفاعل قوى المجتمع أو عن الرؤية الحقيقية لتطور العصر. فإذا كان «فوكو» مثلاً يتصور أن القرن العشرين هو قرن الإنسان بمعنى محوريته في الكون حيث لم يكن ذلك قائماً قبل ذلك، وبأن القرن القادم سيعلن نهاية الإنسان كمحور للكون بعد تقدم التكنولوجيا والتقنية لتصبح هي محور الكون، فإن عالمنا العربي يحتاج ربما إلى قرون لبداية عصر الإنسان فيه. من هنا أرى ضرورة الانتباه عندما نتكلم عن أوضاع نظامنا المعرفي في منطقتنا العربية وفي الخليج بالذات أن ننتبه إلى ثلاث ملاحظات: الأولى: إن وحدانيتنا يشوبها ظلال من الشرك الثانية: إن الإنسان موجود وجودا للاستخدام كوجود المطرقة في يد النجار ثالثا: إن كل مجتمع يتحرك ضمن هاتين الملاحظتين السابقتين؛ بعداً أو قرباً، بمقدار ما يفيض عليه من بقايا الريع. يتبع..