03 نوفمبر 2025

تسجيل

ليلة الحدث العظيم

30 يوليو 2013

لما كنت صغيراً وكنا في قرية تقع على شاطئ نهر الفرات ربما كان أبي أو زوجة أبي أو خالتي كانوا يحدثوننا عن ليلة النصف من شعبان وكان الجهل قد ساوى بينهما في الفضيلة فليلة القدر خير من ألف شهر وليلة النصف من شعبان لم يثبت في فضلها حديث صحيح. كانوا يحدثوننا عن ليلة القدر وأن من سهر الليل، ولو لم يصل في تلك الليلة، أعطاه الله مناه ودفع عنه ما يكره فكانت أحلامي الصغيرة تكبر في تلك الليلة وأطلب فيها من الله ما يحلم به طفل دون سن الخامسة كانوا يحدثوننا عن بركات تلك الليلة وكيف يكون فيها نور القمر وضوء الشمس وحتى هبوب الريح وحتى أن الكلاب لا تنبح العابرين ولو كانوا غرباء وأن السكينة تنزل حتى على الطيور والعصافير. ولما كبرت وكبرت معي أحلامي علمت أن ليلة القدر هي ليلة نزول القرآن وأنها خير من ألف شهر والحديث عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال كفرح طفولتنا ونحن صغار واغتباطنا بمن رآها كما كان يحدثنا بعضهم بذلك، إنها ليلة الاتصال المطلب بين الأرض والملأ الأعلى ليلة بدء نزول القرآن الكريم على قلب محمد الأمين صلى الله عليه وسلم ليلة الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته، العظمة لا تحيط بما المدارك البشرية (إنا أنزلناه في ليلة القدر * وما أدراك ما ليلة القدر) القدر 1-2 إنها خير من ألف شهر لأن الأيام والليالي لا تقاس بطولها ولكن بآثارها فرب ألف شهر تمر خالية من كل خير ورب ليلة يأتي فيها كثير من الخيرات وتفيض فيها النعم على الوجود، والحدث الكوني العظيم حدث القرآن والوحي والرسالة وليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث الوجود وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد وهي لذلك خير من ألف شهر، والعدد لا يفيد التحديد إنما هو يفيد التكثير فالليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر لبقاء آثارها على وجه الدهر وتخليد مآثرها، فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة من آثار وتحولات على وجه الوجود، فلم تعرف الدنيا نعمة أجل ولا خيراً أعظم من نزول القرآن وإعادة اتصال السماء بالأرض. إن هذه الليلة المباركة تدور مع الليالي والأيام، وتبقى هذه الليلة في نفسي وفي نفس الكثير من المسلمين تفوق في حقيقتها حدود الإدراك البشري دون حاجة إلى ما صاغته أفكار عامة الناس وبسطائهم من أساطير أشاعوها حول هذه الليلة في أوهام تخيلوها في ليلة عظيمة باختيار الله لها لنزول القرآن وإفاضة أنواره على الوجود (وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً) النساء: 174 (ليخرجكم من الظلمات إلى النور) الحديد9 وإسباغ السلام الذي فاض من روح الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية مما تضمنه (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين) الإسراء: 9، إن نزول الملائكة ومعهم جبريل عليه السلام- خاصة بإذن ربهم بهذا القرآن وانتشارهم فيما بين السماء والأرض في هذا المهرجان الكوني والاحتفاء والاحتفال الملائكي الذي صورته سورة القدر ليعد تصويراً عجيباً. ولقد كانت هذه الليلة موعد اتصال السماء بالأرض هذا الاتصال المبارك، حقاً إن تلك الليلة التي يفتح الله ذلك الفتح على البشرية، والتي يبدأ فيها استقرار هذا النهج الإلهي في حياة البشر والتي يتصل فيها الناس بالنواميس الكونية الكبرى مترجمة في هذا القرآن لقيام عالم إنساني مستقر على قواعد الفطرة متناسق مع الكون الذي يعيش فيه، يعيش فيه الإنسان على الأرض موصولاً بالسماء في كل حين. لقد مضى الجيل الذي عاش نزول القرآن أول مرة (وما بدلوا تبديلاً) الأحزاب:23 موصولين بالله يلجأون إليه إذا حزبهم أمر أو ألم بهم حادث، واثقين أنه قريب مجيب، وبقي بعدهم القرآن كتاباً مفتوحاً موصولاً بالقلب البشري يصنع به حين يتفتح له ما لا يصنعه السحر (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) الإسراء: 9 وبقي هذا القرآن منهجا واضحا كاملا صالحا لإنشاء حياة إنسانية نموذجية في كل بيئة وفي كل زمان حتى قال الأستاذ محمد أسد (ليوبولد فايس) وهذا اسمه قبل أن يعتنق الإسلام رحمه الله رحمة واسعة قال: "ولا أستطيع اليوم أن أقول إن أي النواحي قد استهوتني أكثر من غيرها، فإن الإسلام على ما يبدو لي بناء تام الصنعة وكل أجزائه قد صيغت ليتمم بعضها بعضا فليس هناك نقص في شيء فينتج عن ذلك كله ائتلاف متزن مرصوص، ولعل هذا الشعور من أن جميع ما في الإسلام من تعاليم وفرائض قد وضعت مواضعها هو الذي له أقوى الأثر في نفسي وهذه هي سمة المنهج الإلهي وحده وهي سمة كل ما يخرج من يده القدرة الإلهية. أنزل هذا القرآن في هذه الليلة المباركة (إنا أنزلنا في ليلة مباركة) الدخان: 3 فيها إنذار الإنسان وتنبيهه (فيها يفرق كل أمر حكيم) الدخان: 4 لقد تميز فيها الحق الخالد والباطل الزاهق ووضعت الحدود وأقيمت المعالم للرحلة البشرية كلها بعد تلك الليلة المباركة إلى يوم الدين. لقد فرق فيها بين كل أمر حكيم فقد وضعت فيها من قيم وأسس وموازين وقررت فيها من أقدار الأفراد وأقدار الأمم والدول والشعوب هذه هي ليلة القدر عظيمة الشأن والقدر هذه هي الليلة المباركة التي فيها يفرق كل أمر حكيم. إن النفس لا تزال تحن إلى الساعات التي كبرت فيها ليلة القدر في الضمير تلك الساعات والليالي، إن في النفس فراغاً لا تسده اللذات المادية التي هي لذات كأحلام الكرى أو ألوان طيف قد سرى إنها قد تسد فراغ النفس لحظة وقوعها فإذا انقضت عادت مطالبها الروحية والتي لا يشفين عليلها إلا المستراح تحت شجرة طوبى. إن ليلة القدر ليست هي التي وجب فيها جناح جبريل شعاع فتبدو لنا بيضاء هادئة ولاهي التي يسهر ويسمر فيها الناس ولو في لهو ولعب ولكنها الليلة المباركة بما ينزل فيها من بركات وخيرات وثواب الله عز وجل على عباده الليلة التي يسجد فيها القلب ويتجرد فيها الإنسان من أنانيته ويقر فيها لله بعبوديته وافتقاره إليه فهي في كل زمان ومكان يعبد العبد فيها ربه ويشعر بمعيته. إن المؤمنين مأمورون ألا ينسوا هذه الليلة المباركة العظيمة القدر وقد جعل لنا نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم سبيلا وسهلاً لاستحياء هذه الذكرى في أرواحنا لتظل موصولة بالحدث الكوني الذي كان فيها وذلك فيما حثنا عليه من قيام هذه الليلة من كل عام ومن التطلع إليها في العشرة الأواخر من شهر رمضان المبارك، "ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه". وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين