12 نوفمبر 2025

تسجيل

ماوراء الحصار الثاني

30 يونيو 2017

googletag.display('div-gpt-ad-794208208682177705-3'); googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1462884583408-0'); }); لا أحد يستطيع تصوّر انطلاق الربيع العربي دون "الجزيرة"قطر استطاعت أن تستقطب- بما وفرته من حرية- خيرة العقول وأنظف السياسيين مغزى الصراع حول قطر أكبرُ بكثير من غضبة مزمنة من أول قناة عربية من بين كل المطالب السريالية التي تقدّم بها الجيران الجائرون لرفع الحصار عن قطر، المطلب "المنطقي" الوحيد هو المتعلّق بالقضاء على قناة الجزيرة، لماذا؟ لأنه لا أحد يستطيع تصوّر انطلاق الربيع العربي- الذي شكّل أخطر وآخر تهديد للأنظمة الاستبدادية العربية- دون "الجزيرة".هذا الربيع ليس له سبب واحد أو أب واحد، وإنما أسباب عدة وآباء كُثر. لكن من الثابت أن من بين الأسباب دور القناة، ومن بين الآباء رجل سيضعه المؤرخون في مقدمة القائمة، وهو الذي أسّسها عام 1996 وحماها منذئذ، متحملا ضغوطا تهدّ الجبال الرواسي.إنه الأمير حمد بن خليفة آل ثاني. ويا لرمزية أن يكون من بين آباء الربيع العربي محمد البوعزيزي، بائع الخضر الذي انتحر لأنه لا يجد عشاء ليلة، إلى جانب أمير إحدى أغنى دول العالم.سؤال نادرا ما يُطرح: لماذا لعب الرجل دورا بمثل خطورة إعمال المعول في الأنظمة الاستبدادية الفاسدة السائدة آنذاك في كل أرجاء الوطن العربي، وكل العوامل الموضوعية تؤهل النظام القطري ليكون واحدا منها؟الظاهرة غير مفهومة بالتحليل التاريخي الكلاسيكي، كما يحبّه المؤرخون الماركسيون خاصة. فبنية قطر الثقافية والاجتماعية والاقتصادية منتصف التسعينيات لم تكن تختلف في شيء عن بنية السعودية والإمارات والبحرين.ما الذي جعل قطر تخرج إذن -منذ تلك الفترة- على محيطها، و "الجزيرة" رمز هذا الخروج وأداته الأخطر؟هنا يتدخل عامل الشخص الذي لا تعيره النظريات البنيوية للتاريخ الأهمية التي يستحقها، رغم أن أول من اكتشف النار والبخار ونواة الذرة لم يكن جمعا أو قوة عمياء، وإنما هو شخص عرف استغلال ظروف موضوعية، وغيّر بمفرده مجرى التاريخ.هذا العامل الذاتي المؤثر على ديناميكية العوامل الموضوعية، هو -في قضية الحال- الذكاء غير العادي لشخص غير عادي.فالأمير حمد، فهِم ما لم يفهمه من يحاصرون اليوم بلده. هو فهم أن النظام السياسي القديم انتهى، وأن النخب الفاسدة المكروهة من شعوبها ستنقرض مثلما انقرضت في أوروبا وأمريكا، وأنه لم يعد هنالك مجال للوصول للعقول والقلوب إلا بالاصطفاف إلى جانب الشعوب، والتجاوب مع آلامها وآمالها.بطبيعة الحال لا مجال لتفسير الأمر بالقومية كما يفهمها ويمارسها بشار بن أبيه.ماذا وراء الخيار إذن؟ محرّك الخيار لم يكن لا الديمقراطية ولا الثورية (أو الثورجية كما يسميها أعداء الربيع العربي)، وإنما ما يمكن تسميته الوطنية العربية، أي الشعور بالغيرة على مصلحة العرب أينما كانوا، والوقوف مع شعوب الأمة بدعمها معنويا وماديا.فإذا أرادت الشعوب الثورة، فالوطنية العربية مع الثورة. وإن هي أرادت الديمقراطية، فالوطنية العربية مع حق هذه الشعوب في الديمقراطية. في كل الحالات هي دوما في صفّ المقاومة، التي تمثلها اليوم حركة حماس التي قبِلت دول النظام القديم أن تصنّفها في خانة الإرهاب، وأن تضرب عليها الحصار الأول عندما استولى السيسي على الحكم ليمسح ثورة 25 يناير المجيدة.باعتمادها هذه الوطنية العربية التي كانت "الجزيرة" لسانها، استطاعت قطر أن تضرب ألف عصفور بحجر واحد.حين لم يستقطب الاستبدادُ الخليجي وغير الخليجي إلا سقط المتاع من مرتزقة السياسة والثقافة وسلاحه الوحيد "الرز" استطاعت قطر أن تستقطب -بما وفرته من حرية- خيرة العقول وأنظف السياسيين، وأن تجعل من الدوحة أهم عاصمة عربية إعلاميا وثقافيا.كما استطاعت أن تبني لها قوة سياسية تفوق حجمها السكاني بكثير، وأن تلعب دورا رئيسا في أحداث الربيع العربي الذي يظن الأغبياء أنه انتهى، والحال أنه في بداياته.لا غرابة في هذه الحالة أن تصبح قطر العدوّ الأول لأنظمة الاستبداد، خاصة أن الابن من منظورها أضاف "خيانة" جديدة لـ"خيانة" الأب. فالأمير تميم لم يكتف بمواصلة مسيرة والده، بل زاد من الشعر بيتا وهو يؤسس جائزة دولية لمحاربة الفساد، والكل يعلم كم الفساد هو النواة والركيزة الأساسية لهذه الأنظمة.هنا لا بدّ من وقف التحديق في الشجرة التي تحجب الغابة، وأخذ نظرة شاملة تضع الحصار الثاني والأول في أوسع سياق، ألا وهو تاريخ النظام السياسي العربي ككل.مغزى الصراع حول قطر اليوم أكبرُ بكثير من غضبة مزمنة من أول قناة عربية، أو تنافس بين أنظمة خليجية، أو بالطبع من حسد وغيرة فاشلين تجاه ناجحين.للإيجاز والولوج مباشرة إلى لبّ الموضوع؛ هذه ملاحظات تضع الأمر في نطاقه الأوسع، أي في إطار الصراع الجبار والمصيري للأمة بين النظام السياسي القديم الذي لم يمت بعدُ، والنظام الجديد الذي ما زال في طور الولادة، حسب التعبير الشهير للفيلسوفة الألمانية هنّا أرندت:1- النظام السياسي العربي الحالي -خلافا لما يتصوره البعض- ليس جديدا إلا في مظهره وإخراجه. هو في جوهره- سواء أكان ملكيا أو"جمهوريا"، "حداثيا" أو"إسلاميا"، "مدنيا" أو عسكريا- ذلك النظام الذي وصفه (ولم يدعُ إليه) عبد الرحمن بن خلدون منذ ستة قرون.2- مثل هذا النظام -بتقسيمه المجتمع إلى سادة ورعايا- لا يفرز إلا الظلم والتمرّد، وتوجّسا مزمنا لكل الأطراف من بعضها. إنه وضع خطير متقلّب، الحاكم فيه مثل راكب حصان جامح، يمكن أن يلقي به في كل لحظة على الأرض فتتكسّر فقرات عنقه.هو بداهة نتاج ظلمه وفساده. هو نتاج التعذيب الوحشي في سجونه، وهو نتاج تلفزيوناته في الثمانينيات التي كانت تدعي محاربة اليسار بالخطاب الديني. وهو نتاج مخابراته التي تخترق وتستعمل المجموعات الإرهابية لحشد دعم الغرب والطبقات الوسطى. الإرهاب إذن ملتصق بالنظام العربي القديم التصاق الظل بالماشي في الشمس، والانتهاء منه لا يكون إلا بنهاية النظام الذي ولّده.لكن أصحاب القرار في الغرب بحاجة لهذا الإرهاب حاجة النظام القديم إليه، فهو يكفل لهم السيطرة على الأنظمة وعبرها على الشعوب العربية وحتى على شعوبهم. وفي آخر المطاف، ما التكلفة بالنسبة لهم؟ 1% ضحايا من الغربيين و99% من العرب والمسلمين، مما يعني أن اتهام قطر بالإرهاب قمة المكر وسوء النية وقلب الحقائق.ابتداء من ثمانينيات القرن الماضي التي شهد فيها العالم اكتساح الموجة الإسلامية والموجة الديمقراطية تقريبا في الوقت نفسه، دخل النظام القروسطي مرحلة النزع الأخير.4- قامت الثورات العربية في سياق هذه التغييرات المجتمعية العميقة، لكي يتم التلاؤم بين الواقع الجديد ونظام سياسي يكفل كل الممكن من المساواة والكرامة والفعالية، لإدارة دواليب دولة يجب أن تخدم الجميع وليس فئة واحدة فقط.إلا أن النظام القديم -عن غباء وخوف- رفض كل تأقلم إلا في قَطر والمغرب، بينما جنّد في جل بلدان المشرق ما بقي له من طاقات للتعرّض لظاهرة ظنها عابرة يمكن القضاء عليها، وهي تحوّل تاريخي بحجم تحرك الصفائح الجيولوجية الحاملة للقارات والبحار.5- بعد الموجة الأولى للثورات العربية تجنّد النظام السياسي القديم، وربح معركة مصر وتونس وليبيا بوضع العراقيل لكسر هذه الموجة. ثم انطلق بكل ما يملك من مال وسلاح لربح الحرب، بعزل غزّة وأساسا بضرب مراكز الدعم للربيع، أي تركيا وقطر. لكن شوكته تكسرت ببسالة المقاومة في غزة وبفشل الانقلاب في تركيا، واليوم بفشل حصار قطر.المضحك المبكي في هذه التراجيديا- التي أصبحت العائلات الخليجية الممزقة تعيش على عبثها وإجرامها- أن المحاصرين لقطر يتصورون أن بداخلها بعبعا مخيفا يمكن خنقه بالحصار. والحال أن البعبع يتمطى داخل بلدانهم في شكل الأجيال ''الإلكترونية''.6- جوهر الموضوع اليوم إذن هو وصول الصراع بين نظام سياسي عربي قديم لم يلفظ- إلى حدّ الآن- آخر أنفاسه، ونظام سياسي عربي جديد يُطلق أولى صرخات الولادة، وصول هذا الصراع إلى ذروته.للأسف ما زالت في الأفق معارك ضارية بعد معركة قطر، ولا أحد يعلم أي حصار ثالث ورابع سيضرب ضدّ كل دولة ينتصب فيها النظام السياسي العربي الجديد. فالنظام القديم مستعدّ للتحالف مع الشيطان وليس فقط مع إسرائيل، التي لا ترى في الحرب الأهلية العربية إلا فرصة ذهبية لمزيد من تدمير أمتنا، ووضع أشلائها تحت وصايتها.7- يجب ألا نغالي في التفاؤل بخصوص المستقبل، لأن الدمار الذي نراه في كامل الوطن العربي -والذي يستشري كالنار في الهشيم- ليس إلا في بدايته.يجب أيضا ألا نغالي في التشاؤم. من المؤكد أن البدائل تتبلور ببطء لكن بثبات، حتى داخل الأنظمة الاستبدادية نفسها، وبعضُ عقلائها يفهمون أنه بوسع سياسات متهوّرة- كالتي تُمارَس اليوم ضد قطر ودول الربيع العربي- أن تعجّل بالانهيار، وإنه من الممكن أن يكون المسؤولون عن هذه السياسات آخر ممثلي سلالاتهم، يحفرون قبورهم بأظافرهم وهم لا يعلمون.نحن لا نرى القوى التي تتجمع في الخفاء تأهبا لإعادة البناء فوق الخراب، مثلما لا نرى ما يعتمل داخل العقول والقلوب. لكنك تسمع أحيانا بقصة تؤكد لك صحة الآمال التي تمكننا من مواصلة المشي بثقة في طريق الآلام.آخر ما سمعته عن هذه القوى التي بدأت من الآن تتهيّأ بصمت للأخذ بزمام الأمور عندما تنتهي فترة التدمير: مجموعة مهندسين سوريين وألمان يحضّرون- والحرب لم تنته بعدُ- خطط إعمار حلب.سنعيد إعمار حلب وتعز والموصل وبنغازي. وسنعيد خاصة إعمار العقل العربي وسنبني على أنقاض النظام ''الخلدوني'' نظاما سياسيا عربيا، يصبح جزءا من الحل لا أكبر جزء من المشكلة. المسألة مسألة وقت، فلا ترضخوا للإحباط... "ولا بدّ لليل أن ينجلي".المصدر: الجزيرة