19 سبتمبر 2025
تسجيلكم من الوطنيين على استعداد لتحمّل فكرة أن الشعب والوطن والمواطن مفاهيم دخلت عقولنا وقلوبنا مثلما دخل مطبخَنا "الكرواسان" وخبزُ "الباغيت" (La baguette) والبطاطا المقلية؛ أي في ركاب استعمار فرنسي رحّلْنا جسمَه وحافظنا على روحه بالحفاظ على الكثير من عاداته وأفكاره وقيَمه؟ أليس من الغريب أن يَدين الوطنيون العرب بتصورهم للشعب لمفكرين أوروبيين من القرن التاسع عشر، من بينهم الشعراء الرومانطيقيون الألمان، والأدباء الروس مثل تولستوي ودستويفسكي، ومفكرون يمينيون عنصريون فرنسيون أشهرهم موريس باراس (1862 - 1923) الذي أكثر من عبارات مدح وإطراء وتعظيم "البسطاء"، وهم في نظره من تتملكهم "غريزة الحق"، ومن يشكلون "مستودع الروح الوطنية الحقيقية"، و"أصحاب الفعل في مواجهة أصحاب القول من مثقفين وجامعيين لا خاصية لهم إلا الثرثرة الفارغة". كم من سياسيينا يعرف أن لويس نابليون الذي حكم فرنسا تحت اسم نابليون الثالث (1852 - 1870) هو من اخترع التقنيات السياسية الحديثة، مثل خُطب تمجيد الشعب والتودّد لعامة الناس بزيارة القرى والأرياف واستقبالهم في القصر، وذلك في قطيعة مطلقة مع العرف الذي كان سائدا قبل الثورة الفرنسية، أي عُرف تودّد الشعب للحاكم والسعي لإرضائه وزيارته في القصر، لا لتلقي التكريم وإنما لأداء فروض الطاعة؟ باستعمال لغة العصر؛ يمكننا القول إن هذه الصورة للشعب تتنافى كليا مع صورته في "البرمجية" (Logiciel) التي تحكمت في عقولنا أربعة عشر قرنا. فهذه البرمجية التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا لا تَرى في أفراد المجتمع الإسلامي شعبا، أيْ جمع سيّد نفسه ومشرّع القوانين التي تحكمه، وإنما رعيّة أملها الوحيد راعٍ صالح، أمة مؤمنين تعيش في ظل أحكام القرآن وحده والحكم الذي أقرّه (الخلافة)؛ أما قيمة كل فرد فتُقاس بمدى تقواه وإيمانه وطاعته لوليّ الأمر. منّا من لا يزال يرفض بقوةٍ البرمجية الحديثة، مُدينا ما حملت ولا تزال تحمل من تشويش عميق في مجتمعاتنا، إذ من الصعب التوفيق بين برمجيتين متناقضتين. لكن المعركة تمّ الحسم فيها لصالح تجديد لم ولن يتوقف، وكل الأمم مضطرة دوريا لتحيينٍ موجعٍ لبرمجياتها، سواء أحبت أم كرهت، نبع التغيير من داخلها أو من ضغط خارجي. المشكلة ليست إذن الجذور الغربية وحتى الاستعمارية لمفهوم الشعب، ولكن ما آل إليه من استعمال في عالمنا العربي، بل وفي كل العالم الذي طبعته الحضارة الأوروبية على مدى القرنين الأخيرين، بطابع لن يمحى قريبا. لننقّب تحت غشاء المفهوم الفضفاض عن المصرَّح به وعن المخفي، وسنكتشف كيف طوّحنا به في اتجاهين على طرفيْ نقيض: طرف ينضح ببقايا الرؤية القديمة وبأسوأ ما فينا، وطرف معاكس ينضح بأوهام العصر وبأخطر ما فينا. بعد أيام من انتخابي من طرف المجلس التأسيسي رئيسا للجمهورية، على إثر انتصار ثورة 17 ديسمبر/كانون الأول المجيدة؛ دخل عليّ مختصّ في القانون الدستوري من عائلة عريقة ليقترح - حسب طلب المقابلة - أفكاراً بخصوص الدستور المقبل. جلس الرجل أمامي وأنا ملتحف بِبُرْنُسِ وَبَرِ الإبل الذي كنت ألبسه قبل تعييني، وواصلت استعماله أثناء وبعد مغادرتي السلطة. حدّق فيّ ابن طبقة الأحياء الراقية لا يخفي مشاعره، ثم بادرني بنبرة غلب فيها الوجع كلَّ الخنوع الذي تربّت عليه طبقته أمام أي سلطة: "لم أكن أتصور يوما في حياتي أن شخصا مثلك سيجلس على هذا الكرسي". المسكين! لم يتحمل صدمة رؤية رجل من "العامة" - لا يخفي ولا يخجل من أصوله - على كرسي الرئاسة، ولم يستطع للحظة السيطرة على طبقيته وعنصريته وجهويته التي كان يخفيها ربما حتى عن نفسه. فجأة تذكرت قصة حدثت لوالدي وهو طالب في أربعينيات القرن الماضي في جامع الزيتونة المعمور، رواها لي بين استهزاء وغضب لم يخفت عقودا، مفادها أنه سأل في حلقة الدرس شيخا معروفا من أعرق الأصول الحضرية عن مسألة ما، فردّ عليه الشيخ بحدّة وقد انتبه للهجته البدوية: يا ابني لماذا لا تعود لصحرائك ترعى الجمال وتترك العلم لأهله؟ كان الشيخ وطبقته في تلك الأيام يقسّمون ما نسميه اليوم الشعب إلى الخاصة والعامة، وهذه الأخيرة مكوّنة أساسا من النازحين إلى العاصمة طلبا للرزق أو للعلم، ويسمونها "الآفاقيين" أي الآتين من الآفاق البعيدة، من أراضي الجفاف والفقر. اختفى هذا المصطلح من القاموس لتستبدله خاصّةُ اليوم - وقد أطلقت على نفسها اسم "النخبة"- بألفاظ أخرى للتعريف بعامة التونسيين، أو بفقراء منطقة بعينها؛ مثل: "القعر" و"الحفتاريش" و"البلغار" و"الزرنات" و"الأباش" والـ"08". أخيرا طلعت علينا نائبة في البرلمان السابق بلفظ "من وراء البلايك"، أي من وراء علامات الطريق التي تشير إلى قرى لا يعرفها إلا من ابتلوا بالولادة والعيش فيها. في كل قُطر عربي تجد مصطلحات تنضح بنفس الاحتقار؛ وقد يكون المصطلح المصري "الغلابة" أثراها، فهو يجمع في كلمة واحدة معانيَ ثلاثة تصف عامة الناس بأحسن وصف: الأغلبية... المغلوبة على أمرها... الغالبة بإذن الله عندما تنتفض لحقوقها. وفي الماضي عرّفَت نفسُ "النخبة" هؤلاء الغلابة بالرعاع والسوقة والدهماء. الطريف في الأمر أن تسمع البعض في تونس يحدثونك عن الأغلبية التي ينتمون إليها بتسميتها "الشعب الكريم" من باب السخرية، لأن المغلوب يقلد الغالب - كما يذكر ابن خلدون- حتى في نظرته لنفسه التي يراها عبر عينَيْ الغالب. وهنا طُرفة على سبيل المثال: في إطار سياسة فتح القصر الرئاسي للمواطنين؛ أحدثتُ برنامجا لزيارة أطفال المدارس كل يوم أحد للقصر، واستضافة سكان الأحياء الشعبية والأرياف للغداء معي كل يوم جمعة. وأذكر أن المسؤولة عن البرنامج زلّ لسانها في أحد الاجتماعات عندما وصفت ضيوف الجمعة - مستعملة كلمة فرنسية- بأنهم "الشعب الصغير" (Le petit peuple)، وهو المصطلح الذي تستعمله "النخبة" الفرنسية بنفس الازدراء. لم تحافظ على منصبها إلا باعتذار مليء بالحرج، وخاصة لأنها كانت تؤدي مهمتها مع "الشعب الصغير" بكثير من التفاني. وتبقى اللغة - ماضياً وحاضراً- أحسن دليل على العقليات والمواقف المخفية أحيانا بمهارة؛ فكلمة "الشعب الكريم" أو "الشعب الصغير" - ناهيك عن المصطلحات الأكثر فجاجة وعدوانية - تحيل إلى شعب تدنّسه "النخبة" وهي ترميه بكل القاذورات المعنوية، تعيّره جهرا أو سرّا بجملة من الخصائص التي تتخيّلها جزءاً من طبعه ومن طبيعته، مثل الجهل والكسل وقلة الأدب والخشونة والبلادة. إنها بالطبع صورة مفبركة لا وجود لها إلا في مخيّلة مريضة، لكن "النخبة" بأمسّ الحاجة إلى تعهدها وإشاعاتها حتى بين ضحاياها، وهي تبريرها الوحيد لاستحواذها على القدر الأكبر من الثروة والسلطة والاعتبار، والأمر لا يكون مقبولا إلا إذا كان وضع هؤلاء "الغلابة" نتيجةَ هذه الخصائص لا نتيجةَ ظلم وعنف وقمع للأقلية. الخلاصة أننا نجد أنفسنا - ونحن نقلب مفهوم الشعب - أمام صورتين وهميتين له؛ إذ لا يوجد عاقل يؤمن لحظةً بأن أغلبية البشر العاديين تستأهل احتقار النخبة المتمكنة، أو أنها تستأهل تأليه النخبة الساعية للتمكن. والسؤال الذي يفرض نفسه بعد كل هذا الكلام: هل هناك شعب موضوعي شوّهته هذه الصور النمطية وهل يمكننا معرفته دون أن نضيف للوهمَين وهماً جديدا؟ نعم؛ هذا الشعب الحقيقي موجود ويمكننا معرفته بدقة، خاصة أنه يصنع تاريخنا الحديث تحت أعيننا، إنه ما أسميه شعب المواطنين... وللحديث بقية. المصدر: الجزيرة