11 سبتمبر 2025

تسجيل

أضواء على الفوضى الخلاقة

30 يونيو 2016

جاءتنى مكالمة تليفونية من أحد القراء الشباب الصغار – وهو حفيد أحد أصدقائى – يطلب فيها زيارتى .. وفى الموعد فوجئت به يسألنى عن معنى المصطلح السياسى " الفوضى الخلاقة " .. ولأن صديقى الشاب الصغير هذا من محبى اللغة العربية وقراءة القرآن الكريم مع محاولاته الدائمة لفهم معانى الكلمات والآيات الكريمة .. ويجد فى ذلك متعة كبيرة ولذة فائقة حتى تكونت لديه حاسة تذوق معانى ما يصادفه من عبارات وجمل عربية .. ولأنه – حسبما قال – أنه يعرف أن الفوضى لابد أن تكون " هدامة " .. فكيف تكون هناك فوضى خلاقة وخاصة أن ذلك يقترن بإسم إحدى أكثر وزراء الخارجية الأمريكية السابقين شهرة وهى السيدة كونداليزا رايس .. واضاف صديقى الشاب أنه لم يستطع أن يتذوق هذا الكلام وبالتالى لم يتمكن من إستيعابه .. وطلب منى المعونة بالرأى . وفى هذا الصدد أقول لصديقى هذا وللأحباء من القراء أنه كثيرا ما يصادفنا بعض العبارات أثناء قراءة الصحف أو الإستماع إلى وسائل الإعلام ولكننا لا نتوقف أمامها كثيرا .. إما لعدم الإهتمام أو إعتمادا على أن " الأمور سوف تفسر بعضها " حسب التعبيرات الشائعة والمنتشرة بين الشباب فى هذه الأيام .. ولكننى أكبرت هذا النهج فى هذا الصديق الصغير فى السن والذى يتمتع بهذه الصفات التى يندر أن نجدها فى الكثير من الكبار .. وبدأت فى الشرح بقدر ما أسعفتنى به الذاكرة .. فقلت لصديقى الذى جلس أمامى واضعا رأسه على كفيه وهو ينصت بإهتمام بالغ . ولكى نعرف أصل هذه الفوضى فإننا لابد أن نعود إلى نهايات الدولة العثمانية وتزايد النشاط الصهيونى فى المنطقة بعد عزل السلطان عبد الحميد عام 1908 .. وبسبب تفشى الفساد والرشوة فى الإدارة العثمانية والذى أدى إلى الإنهيار الكامل للدولة العثمانية فى نهاية الحرب العالمية الأولى .. وكان قد سبق ذلك عقد الإتفاقية الشهيرة " سايكس بيكو " بين بريطانيا وفرنسا وبمباركة روسيا القيصرية والتى تنص على تقسيم منطقة " الهلال الخصيب " بحيث تحصل فرنسا على سوريا ولبنان والموصل من العراق وتحصل بريطانيا على باقى بلاد الشام بالإضافة إلى بغداد والبصرة . ووجدت صديقى الشاب يسألنى عن معنى كلمة " سايكس بيكو " هذه قبل أن نستأنف الحديث .. ولقد كنت أتوقع هذا السؤال على أية حال .. فقلت له أنها مركبة من إسم الدبلوماسى الفرنسى فرانسوا بيكو والدبلوماسى البريطانى مارك سايكس . وكان كل ما سبق من بنود الإتفاقية يجب أن يظل سرا لأن ذلك سيسير بالتوازى مع التمهيد لقيام دولة يهودية على أرض فلسطين وهو ما سنتناوله الآن ولكن بعد أن نوضح أن الله خيب رجاء أصحاب الإتفاقية أو بالأحرى مؤامرة سايكس بيكو الهدامة وذلك بقيام الثورة البلشفية فى روسيا القيصرية عام 1917 حيث تم نشر بنود المؤامرة المشئومة على الملأ . أما عن قيام دولة الكيان الصهيونى فقد تواكب ذلك مع زيادة النشاط الصهيونى فى فلسطين بالرغم من أن عدد السكان من اليهود لم يكن يتجاوز خمسة فى المائة .. ومع هذا فقد أعطى بلفور وزير خارجية بريطانيا وعده المعروف بإسمه " وعد بلفور " بتأييد بريطانيا بإنشاء وطن قومى لليهود على أرض فلسطين .. وهو ما ينطبق عليه تماما القول المعروف ب " وعد من لا يملك لمن لا يستحق " .. وكان ذلك قبل شهر واحد من إحتلال بريطانيا لفلسطين . ولو أننا نظرنا إلى المنطقة العربية فى تلك الفترة لوجدنا نموذج الفوضى فى كل البلاد من شرقها إلى غربها حيث تم إقتسام المنطقة الواقعة شرق المتوسط كما أسلفنا بالإضافة إلى وقوع مصر والسودان تحت الإحتلال البريطانى .. ودول المغرب العربى ( تونس والجزائر والمغرب ) تحت الإحتلال الفرنسى .. وحتى إيطاليا لم تشأ أن تقف موقف المتفرج فقامت بإحتلال ليبيا بموجب معاهدة لوزان عام 1912 . ولعل ما سبق يفسر ما سبق أن كتبناه فى بداية هذا المقال من أن الفوضى الخلاقة بدأت قبل كوندليزا رايس بسنوات طويلة .. لقد كان التخطيط يهدف إلى تقسيم المنطقة أو بالأحرى تفتيتها حتى يسهل إبتلاعها والسيطرة عليها من كافة النواحى وخاصة الفكرية والإقتصادية . ونتوقف هنا برهة بناء على إستفسار وتعجب من صديقى القارئ الشاب الصغير .. فقد قال أنه يفهم السيطرة الإقتصادية بنهب الموارد المالية وخاصة البترول ومشتقاته .. فماذا عن السيطرة الفكرية .. ولا أخفى عليكم إعجابى بطرح السؤال عن السيطرة الفكرية والتى تعنى التدخل فى إعادة تشكيل وجدان الشعوب المحتلة عن طريق نواح عدة مثل الأدب والموسيقى والفن بشكل عام فضلا عن فرض الأفكار والبديهيات فى العملية التعليمية وهى من أشد الأسلحة فتكا فى إعادة تشكيل وجدان الشعوب .. وهذا الأمر يستحق منا أن نفرد له مقال خاص . ولأن الأمة العربية دائما زاخرة بأفضل العناصر البشرية المخلصة والمؤمنة بالله وقضايا الأوطان فقد جاهد الكثير من أبنائها فى سبيل تحريرها والتخلص من تلك السيطرة الإستعمارية فنجد قيام الثورة المصرية يوليو 1952 على يد نفر من أفضل رجال الجيش فى مصر يتقدمهم الضابط الشاب جمال عبد الناصر ومجموعة من الضباط الأحرار ونجحت هذه المجموعة فى إجبار ملك مصر على التنازل عن العرش كما هو معروف .. وكان أفضل ثمرات هذه الثورة هى جلاء آخر جندى بريطانى عن مصر فى 1954 .. كما نجح السودان فى نيل الإستقلال عام 1956 .. وكذلك سوريا فى أبريل 1956 .. وتبعتها لبنان فى ديسمبر من نفس العام .. ولم يتوقف المد الثورى عند هذا الحد بل إمتد إلى دول المغرب العربى لتحصل تونس والمغرب على الإستقلال فى 1956 وتعقبهما الجزائر فى 1962 .. وهنا لابد أن نسوق ما أقره المؤرخون عن دور مصر فى تفجير ثورات العالم العربى فى الخمسينيات والستينيات ضد كل هذه القوى المحتلة حتى رحلت عن الدول التى تحتلها .. فهل كان هذا نهاية المطاف ؟ كلا والله .. لقد قامت تلك القوى الآثمة بتسليح إسرائيل وتقويتها عسكريا .. وكانت نكسة 1967 التى نجم عنها إحتلال سيناء .. وجميعنا يعرف ما أعقب ذلك من إعادة تأهيل الجيش المصرى والذى كان نصر أكتوبر 1973 هى أهم ثماره وما تلا ذلك من إتفاقية السلام التى إستعادت فيها مصر كامل أرضها لتبدأبعد ذلك التفرغ لإعادة بناء الوطن . ولكن هل كان ذلك كافيا لتتوقف تلك القوى وهذه الدول (بريطانيا وفرنسا ) عن مؤامراتهما .. والإجابة لا .. لا كبيرة .. كيف ؟ لقد عادتا – وهذه المرة بقيادة أمريكية – إلى التدخل الناعم الطويل الأمد وذلك بإنشاء كيانات إرهابية مسلحة تطلق على نفسها أسماء إسلامية مثل القاعدة وداعش وغيرها .. وهى بهذا تهدف إلى إضعاف دول المنطقة واستنزاف قواها ونشر " الفوضى " فى أرجائها .. الفوضى هنا أصبحت مسألة نسبية .. فهى من وجهة نظرهم وبالنسبة لأهدافهم وتحقيقها " فوضى خلاقة " .. تساعد على تحقيق مصالهم .. ولكنها بالنسبة لنا ليست فقط هدامة .. بل ومدمرة أيضا . وهنا يتبادر إلى الأذهان سؤال حتمى .. لم تطلق هذه الجماعات الإرهابية والممولة من تلك القوى على نفسها أسماء إسلامية ؟ وستكون الإجابة بسيطة وحتمية أيضا .. وهى أنهم يسيطرون على عقول الشباب بالأفكار الناعمة الخاطئة والتى لا تهدف إلا للإساءة لصورة الإسلام أمام العالم وهو هدف عظيم بالنسبة لهم يبذلون من أجله كل غال ونفيس . وفى هذا الصدد فإننا نسوق ما قاله الحكماء قديما " من يربى الثعابين لا يسلم من لدغها " .. وهذا القول نراه يتحقق على أرض الواقع عندما نرى التفجيرات الإرهابية فى المدن الأوروبية وتحديدا البريطانية منها والفرنسية وهم الذين قاموا بتربية الثعابين الإرهابية لإزعاج وتفتيت الدول العربية والإسلامية وإضعافها ليسهل إبتلاعها .. والأهم من كل هذا – بالنسبة لهم – هو الإساءة للدين الإسلامى نتيجة لما يرتكبه هؤلاء الذين تم غسيل أدمغتهم لتحقيق هذا الهدف .. وهكذا لم يسلم هؤلاء من لدغ الثعابين التى قاموا بتربيتها . ونتوقف عند هذا الحد آملين أن نكون قد إستطعنا أن نلقى بعض الضوء على ما طلبه منا صديقى القارئ الشاب الصغير المثقف والذى أصبح من الواضح لدينا أن مداركه الذهنية تفوق ما يمكن أن نتوقعه ممن هم فى مثل عمره . ونأمل أن نلتقى فى موضوع جديد ومقالنا القادم بحول الله .