14 سبتمبر 2025

تسجيل

كل علم لا يوصلك إلى ذاتك فهو يضلك!

30 مايو 2018

في اليونان القديم وعلى واجهة معبد ديلفي نحتت هذه العبارة "اعرف نفسك" وكما يحكى عن الفيلسوف "ديوجين الكلبي" أنه كان يحمل مصباحاً في وضح النهار بحثاً عن الإنسان. إن معرفة النفس ليست ترفاً كما يراها الخاملون، ولا مجرد فضيلة كما يفهمها المتعالمون، بل هي أفرض فريضة، يقول العارفون. ولن نذهب بعيداً، فتوحيد الله هو أوجب الواجبات، لكن هذا الواجب على علو قدره موقوف على معرفة النفس، فما عرف الله من جهل نفسه، فمعرفة النفس هي الطريق الملكي إلى الله. إن معرفة النفس كالمقدمات، إذا صحت صحت النتائج وكالبدايات إذا استقامت استقامت النهايات، فكم من عباد لله بجهل لا يدركون أنهم يعبدون أنفسهم وهم لا يشعرون، لقد حكى هيرودوت في مشاهداته أنه رأى قبائل إفريقيا ينحتون آلهتهم على شاكلتهم، أفطس الأنف، أسود الوجه، أجعد الشعر، ثم زار قبائل الروم فوجدهم ينحتون آلهتهم على شاكلتهم، أبيض الوجه، أشقر الشعر، أزرق العينين، فقال: علمت من ذلك أن الخيول والبغال والحمير لو استطاعت أن تنحت لها آلهة لجاءت آلهتهم خيولاً وبغالاً وحميراً، قد أسمع صوتاً قادماً من نفسي بأن المثل بعيد لكن صوتاً آخر من أعماقي يقول: بل المثل جد قريب فإذا كان الناس في الدين تبع لملوكهم فتوحيدهم لله تبع لنفوسهم؛ لأننا لا نستطيع أن نرى شيئاً في الوجود بما في ذلك توحيدنا لله إلا من خلال إسقاطات نفوسنا فكل إنسان يرى الوجود وما وراء الوجود بما يرى به نفسه "قل كل يعمل على شاكلته" وهنا مكمن الخطر، لقد أدرك ذلك مولانا الرومي فقال: بالأمس كنت ذكياً فأردت تغيير العالم الآن أنا حكيم لذلك سأغير نفسي وللحق فإن الأمر شاق تكتنفه صعوبات جمة ليس أصعبها أن الرائي هو عين المرئي وهو ما يحجب رؤية النفس؛ بل لأن المرايا التي يمكن أن نرى فيها ذواتنا أكثرها مقعرة أو محدبة، إحداهما تتضخم فيها الأنا والأخرى تكاد أن تتلاشى فلا بد أن تجعل بينك وبين ذاتك مسافة ملائمة ترى فيها أفكارك وأفعالك في مرآة مستوية ومعتدلة بحيث يتساوى فيها حجم الإنسان بحجم أناه ويتساوى مقدار البعد بينه وبين أناه بمقدار البعد عن المرآة.  يعيش الإنسان منا صغيراً في مرحلة واحدة من حياته، لكنه قد يعيش بقية حياته غير ناضج، وسلوك الإنسان يأتي على طبق الأصل من عقيدته في "الله" فبنو إسرائيل حين احتكروا مفهوم "الله" مدعين أن الله حق حصري لهم نتج عن ذلك أن بقية البشر بهائم أو عبيد، وويل للدِّين من مؤمن لم يعرف نفسه؛ إذ المعرفة هي أول شرائط البراءة من عدوى الإسقاط والنجاة من شتى ضروب الحيل، ومعرفة النفس هي أفضل المعارف بل أفضل المعرفتين (معرفة النفس، ومعرفة الآفاق) وكل علم لا يوصلك في النهاية إلى نفسك فهو يضلك مزيد ضلال ويحيل عندك الأوهام محل الحقائق.