12 سبتمبر 2025

تسجيل

المسافة صفر!

02 مارس 2019

الأفعال حياة الأقوال وروحها، وكل قول خلا من عملٍ يصدقه هو دعوى ميتة، فكما أن لكل حق حقيقة فمصداقية الأقوال تتجلى في الأفعال، وبقدر ما تتسع الفجوة بين القول والفعل تسقط الأمم في وهدة العدم، وهذا المقياس يَصْدُقُ على حياة الأمم المادية، كما هو صادق على أخلاق الناس وإيمانهم. إن المسافة بين الأقوال والأفعال هي وحدة القياس الصادقة على الإيمان والحياة أيضاً، وهذا تماماً معيار الفرق بين الأمم التي تنتج الحضارة، والأمم التي تستهلكها، بين الأمم التي تصنع التاريخ، وتلك التي هي مادة للتاريخ، وإذا كان التاريخ يمقت الكسالى العالقين في مقولاتهم لا يجاوزونها إلى فعل حقيقي، فإن مقت الله أشد بأولئك الذين يزعمون إيماناً بالخالق وسلوكهم دليل على احتقار الخَلْق، وهذا اللون من التدين أشد خطراً على الدين من الإلحاد الصريح، لقد نعى القرآن عليهم أولاً (لم تقولون ما لا تفعلون)، وأخبرهم بأنه من أسباب المقت ثانيا (كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون) لقد استنام الكثيرون ل (يا أيها الذين آمنوا) ضاربين صفحاً عن التوبيخ (لم تقولون ما لا تفعلون) هرباً من استحقاق (كبر مقتاً عند الله...) متعللين بما قالوا إنه سبب للنزول، وهذه تعللات نفس يفهمها جيداً من يحاول فهم نفسه، فلو نَحَّينا جانباً سبب النزول وأعملنا الأصل القائل: إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، سيتكشف لنا أن النداء هنا بالذات ممعن في الاستهزاء بهذا الشكل من الإيمان الذي لا يعجب الله تعالى. كما تستهزئ من ابنك الذي يُمنِّي نفسَه بالنجاح وهو أبعد الناس عن أسبابه، حتى إذا جاءت لحظة الحقيقة ونكَّس الحالمُ رأسه بعد الفشل، قلت له إمعاناً في التوبيخ: مرحباً بالناجح !!! إن قصر المسافة بين الأقوال والأفعال ليس دليلاً فقط على صدق الأفراد والأمم، بل هو أيضا السبيل الوحيد للانسجام النفسي وسلامة الروح، هو أن تعيش وفقاً لما تقول وتتحد بما تعتقد، وهكذ تظل الفجوة تُردمُ شيئاً فشيئاً حتى تصير المسافة صفراً بين قول الإنسان وعمله، وهذه منازل، النبيين، والصديقين، والشهداء والصالحين. في داخل كل إنسان منا ـ على الأقل ـ شخص آخر لا نعرفه، تخلقه الخصومة الدائمة بين ما نقوله وما يصدر عنا من فعل يناقضه، حتى يكون الإنسان الواحد فينا ميداناً لمجموعة شخوص تتعاقب على تمزيقه، فيعاني أولاً شرخاً في النفس، يتسع رويداً رويداً ليصبح هوة عدم سحيق. إن الذي يُنعم النظر في التاريخ يجده كثيراً ما يستهزئ بالذين يعيشون وهْمَ الاستحقاق بأنهم أسياد في الأرض دون أن يكون لهم همة أو عمل، فيزين لهم أوهامهم، ويعميهم عن عيوبهم، ثم يجعلهم مطية لكل تافه، وهم في مقت الله بعد مقت التاريخ، فالزمان رسولٌ لايزال يحمل رسائل الله للإنسان. ما أيسر ادعاء الإيمان، بيد أن الزمان شاهدٌ يُصدق ذلك أو يُكذبه (والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر).