16 سبتمبر 2025
تسجيلقليل من العلماء والشخصيات البارزة التي تترك بصمتها بعيداً عن بلدها، وأقل القليل التي إن ذُكر بلدها عُرفت به، والعكس صحيح. كلنا يعرف ماذا يعني ذكر محمد عبده، وحسن البنا وسيد قطب، وماذا يعني ذكر الإمام محمد إبراهيم الشيخ، وعبد العزيز بن باز والعلامة ابن عثيمين والعلامة سلمان العودة وغيرهم كثير من بلاد الحرمين، وماذا يعني البشير الإبراهيمي، وابن باديس ومالك بن نبي، وماذا يعني ذكر محمد إقبال والإمام المودودي، وماذا يعني ذكر عمر أبي ريشة وعمر بهاء الدين الأميري، وعز الدين القسام ومصطفى السباعي، ومحمد محمود الصواف، وماذا يعني ذكر محمود الغزنوي وملا عمر، وكلنا يعرف ماذا يعني ذكر الإمام الندوي. تلك هي الأسماء المُعرّفة ببلادها وأوطانها، وتلك هي الشخصيات الناعمة التي حفرت اسمها بعيداً عن أوطانها، فكسرت القيود الجغرافية الصماء، فسارت بذكرها الركبان زمانياً ومكانياً، تعريفاً بأوطانها، وبالهوية التي دعوا إليها في حياتهم، فكانت إرثاً عظيماً ناطقاً بإنجازاتهم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.الشيخ الجليل العلامة عبد المجيد الزنداني، لا شك من ضمن هذه الشخصيات التي تركت بصمات، وخلّفت إرثاً عظيماً، سيناقشه من بعده: مشايخ وعلماء، وباحثون ومراكز دراسات، تلك هي الحياة الثانية للمرء، وذاك هو الذكر الثاني، حيث ذكره بعد رحيله، وما دمنا في حضرة العلامة الزنداني رحمه الله، فقد كان أول تماسٍ لي به عام 1984- 1985 في بيشاور يوم نفر هو والشيخ عمر سيف، وخيرة أبناء اليمن السعيد مع خيرة أبناء الأمة من أجل دعم الجهاد الأفغاني، والشعب الأفغاني المظلوم، الذي تعدّت عليه أجرم إمبراطورية يومها، وهو الاتحاد السوفياتي، تماماً كما يتعرض له اليوم الشعب السوري، على يد تلك الدولة التي غاصت ركابها بدماء مليون أفغاني، كما غاصت اليوم ركابها بدماء مليون سوري، يومها كان الشهيد عبد الله عزام رحمه الله، يُحرض ويعبئ ويحشد الأمة، وكان الشيخ الزنداني معه أخوه الشهيد عزام، يحرض ويشارك الأمة جهادها أيضاً.. مشهد يومها لم يذكرنا إلا بما قرأناه عن مشاركة نخب الأمة في حرب فلسطين الأولى ضد الصهاينة المغتصبين، ولكنه في أفغانستان كان بزخم أكبر وحضور أقوى. لم ينقطع الزنداني رحمه الله طوال فترة الجهاد الأفغاني عن مشاركته، زيارات ودعم وتأييد، ويدفع بأبناء اليمن إلى ساحات العز. لقد ألقت يومها اليمن وغيرها من بلدان العالمين العربي والإسلامي بفلذات أكبادها للوقوف مع المظلوم الأفغاني، واستمر العطاء، حتى انتقل إلى دوره العظيم والريادي في توحيد اليمنين الجنوبي والشمالي، وكان لمشاركة أبنائه وإخوانه الذين سبق أن شاركوا بالجهاد الأفغاني الدور والقدح المعلى في معركة توحيد اليمن يومها، والتي تمخضت بفضل الله عن توحيد شطري اليمن، ليعود إلى أصله، دولة واحدة. لم يقتصر دور العلامة الزنداني رحمه الله وتقبله في عليين على هذا فقط، فقد انتقل إلى اليمن وأسس صرحاً علمياً عريقاً يليق به، ويليق بمكانة اليمن، فكانت جامعة الإيمان التي جذب إليها خيرة علماء الأمة في تلك الفترة، فكان على رأسهم العلامة الشيخ الدكتور عبد الكريم زيدان رحمه الله وتقبله في فردوسه، وعلماء آخرون، وجذب إليها طلبة الأمة من كل أبناء العالمين العربي والإسلامي، فكان كالوالد الحنون الذي يحرص على أبنائه الطلبة، وما زلت أتذكر حين زيارتي إلى اليمن في عام 2011 كيف دعاني إلى جامعته، وأكرمني بارك الله به، وتقبله قبولاً حسناً، فلمست لمس يد ذلك الخزان العلمي والمعرفي، الذي سريعاً ما ملأ نوره بفضل الله تبارك وتعالى، ثم بفضل جهود الشيخ الزنداني وإخوانه، اليمن وما وراء اليمن، حتى أتت عصابات منفلتة تدعى بالحوثي لتعيث فساداً وتخريباً في الجامعة ومبانيها، وتُحولها لساحة حرب وتخريب وفوضى كعادتها، وعادة أسلافها.وقبل هذا سيُذكر من مآثر الفقيد الراحل جهده العظيم في الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، والجهد المؤسس في الإعجاز العلمي لعلوم السنة النبوية، فقد كان في هذا فارساً عظيماً، هدى الله على يديه الكثير، وبصّر الأكثر في علوم كانت غائبة أو مغيبة عن الأمة.سيذكر السوريون الدور اليمني المشهود، حين استقبل عشرات الآلاف منهم الذين فروا بدينهم من نظام حافظ الأسد في الثمانينيات، فأكرموهم، ولم يشعروا يوماً أنهم غادروا سوريا، وسيذكر السوريون على رأس هؤلاء، العلامة الشيخ الزنداني، وحزب الإصلاح، ومعهم علماء اليمن وأهله، فبارك الله في يمننا، وأعاده إلى الأمة عزيزاً قوياً متيناً.حين شهدت جنازته، وجنازة الشيخ أحمد أفندي زعيم جماعة محمود أفندي في مسجد الفاتح بإسطنبول قبل أيام والتي حضرها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، مع خيرة علماء الأمة وعلى رأسهم أحمد الحسن الددو، وعصام البشير وآخرون حفظهم الله للأمة، ومعهم عشرات الآلاف من أبناء إسطنبول والمهاجرين العرب الموجودين فيها، تذكرت قول إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله لأهل البدع: (بيننا وبينكم الجنائز).. هكذا ودّعت إسطنبول علماءها، وهو استفتاء حقيقي وواضح على شعبية العلم والعلماء، وحضوره في إسطنبول بفضل الله. بورك لإسطنبول احتضانها لما وصفه شيخنا العلامة عصام البشير حفظه الله، الركن اليماني الثالث، بعد احتضانها أبي أيوب الأنصاري، ثم أويس القرني، وبورك للشيخ العلامة الزنداني وأهله احتضانه بجوار أبي أيوب الأنصاري، الذي استضاف حبيبه وحبيبنا جميعاً محمداً عليه الصلاة والسلام في حياته بعد هجرته إلى المدينة المنورة، ليستضيف اليوم الزنداني بعد مماته.. كأنني أحس وأشعر بأن الشيخ الزنداني بعد مماته وقد بُعث من جديد، من خلال مشاركة العالم كله، في جنازته، حتى وصلت المشاركة إلى مسلمي الصين، وهو ما يشير إلى مقبوليته في الأرض، التي تأتي بعد مقبولية السماء بإذن الله كما جاء في الحديث، وأخيراً عظم الله أجر أهله وأحبابه، وجمعنا جميعاً مع المصطفى عليه الصلاة والسلام في فردوسه، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها.