15 أكتوبر 2025

تسجيل

المرايا

30 مارس 2014

ثلاث مرايا متراصة بجانب بعضها البعض تزيّن حوافها نقوش ذات خشب محروق … الهدوء يعم المكان فلا تسمع سوى صوت أنفاس بشرية مرتسمة على تلك المرايا الصامتة، البرودة أثلجت أطراف الغرفة، ارتجافات الحائط تكاد تشرخه من الصقيع، الحزن فى هذا المكان يصفع شبابيك السكوت فيترجم خلجات أفراد ثلاثة، متقابلين لمراياهم المتماسكة المتراصة كالجنود فى وقفتهم.المرآة الأولى:رجل وجهه مبعثر وكليل من شدة الحزن، علامات الكدر ارتسمت على ملامحه التى ظل يتأملها أمام مرآته، متحيّرا.. متحسّرا..يقرع سنّه ندما أمامها … أيامه سوداء كظلمة الغراب … وكانطفاء نور الغرفة التى يقف وسطها فلا توجد سوى شمعة صغيرة يلمح بها وجهه المتعب أمام المرآة، وشظاياها المتناثرة كتناثر ذنوبه التى أرهقته … سنون مرّت … يمارس بها معنى اللؤم والخداع … فهو خلاّب … غاو … ماكر.. كذّاب … اختصار حياته … مكيدة.. مكْر.. مخاتلة … مخادعة … مداهنة … لم يرّق قلبه يوما على فقير … ولم يحض على طعام المسكين … لم يداو جرحا موجعا … بل داعبه بحد سكينه … عمّق ألما … كسر قلبا … ومزّق ورقة طموحة أبت أن تقبل من الظلم مهجة … ها هو ينظر لنفسه الأمّارة بالسوء … يتأمل ما بداخله من مثلبة ونقيصة … فضاقت عليه الأرض بما رحبت … انقباض روحه التى تتصعد فى السماء من شدة الندم قد شكلّت على مرآته، فها هى تحاسبه … تأنبه … توبخه … على مافعل، فأصبح وحيدا … منعزلا … منفردا بعد أن خسر من حوله وأضاع نفسه …المرآة الثانية:وجه باسم … هش … متهلّل ينظر بتمعن إلى ملامحه السمحة، يقف صاحبه مقابلا لمرآته وكأنما ينظر إليها وتنظر إليه بتحد، ماسكا زجاجا مكسورا قطعّ راحة يديه فتقاطر دمه على الأرض، رابط الجأش … فهو صبور … متجلد ولهمه محتسب … وضع الضاغن يوما لصاحب المرآة شوكا منتثرا فى طريقه … ليعوقه عن المسير إلى وجهته … باب مفتوح ويلّوح له أحدهم بيديه من بعيد وتحديدا من ذلك الباب المؤدى إلى طريق الحياة القويم … لم يكترث لذلك الشوك، فاصْطبر وتجالد وتجشّم واحتمل غرس الشوك تحت رجليه، فلم يدع للبؤس مكانا فى نفسه … يزرعون له الشوك فيباغتهم مسرعا بنثر الورد، يكسرون فيه طموحا فيسهر الليل من أجل ترميمه.. يقاسى من سهامهم التى يرمونها من أقواسهم، وشر نفوسهم المجبلة على حفر الحفر فى طريقه، لم ييأس بعد! ينظر إلى تلك المرآة … ويسأل نفسه: لماذا أنا؟ ابتسامة خاطفة يرتسمها على شفتيه فلقد باغتته الإجابة مسرعة من مرآته بأنه: لا تُرمى إلا الشجرة المثمرة!المرآة الثالثة:لبس هندامه الجديد يرى نفسه بغرور فى مرآته المستندة بشموخ، تقف مثلما يقف صاحبها فتبادله الغرور كما يريد اعتباطا، يمرّر يديه على ذقنه ويحاور وسامته برقة متناهية بجّاج … فهو متعال … بخْتير … يرى الناس صغارا فهو متباه، متغطْرس، متكبّر.. رافعا أنفه وكأنما يود أن يبلغ الجبال طولا … يستمع لنفسه فقط يحاورها بلطف… وشاطط فى حكمه على الآخرين …يرى رأيه صوابا ورأى غيره خطأ … يقف كل صباح أمام مرآته مختالا فخورا … لكى يسير بين الناس … هاضما … باغيا … جائرا … مسْتخفا بفئات الناس، ينازع رب العالمين فى الكبر، متناسيا بأن الكبر رداءه تعالى والعظمة إزاره فمن نازعه فى ذلك قذف فى النار … مسك بشته الفخم بغتة فارتداه … ونثر العطور على ثوبه ذى البياض الناصع، يقارع حبيبات مسباحه بعضها البعض باختيال مشتما رائحتها العطرة، مستعدا ليمشى بين الناس منقادا بغروره متعاليا بكرسييه الذاهب يوما إلى زوال!نهاية القول:وجوه مختلفة … وأرواح غريبة … وخلجات النفس تجتمع لنصبح أعداء أنفسنا … حديث النفس أمام المرآة هو الأصدق … فالمرايا ماهى إلا انعكاسات ما نكبته فى قلوبنا الصغيرة … هناك ملائكة تقف على أكتافنا ترى ما نفعل … تسجلّ إصرارنا على المعاصى … وظلمنا لبعضنا البعض …لأننا تاركون ضمائرنا فى سباتها العميق للأسف….