11 سبتمبر 2025
تسجيلفي العام السادس للهجرة قامت قريش بتوقيع هدنة لإيقاف القتال المسلح بين الجيش القرشي والقوات الإسلامية بقيادة النبي الأكرم، وكانت بنود هذه الهدنة تنص على إيقاف مؤقت للقتال بين الطرفين، وسميت تاريخياً بصلح الحديبية، وقد شملت عدة بنود واشتراطات بين الطرفين، ولكن الذي نريد أن نسلط الضوء عليه هو كيف تعامل النبي الأكرم ﷺ مع الهدنة في ضوء المعطيات السياسية والقائمة على المصلحة والمنفعة المباشرة والآنية ودفع المفسدة والمضرة عن الشعب والملة. يعلّمنا المعلم الأول ﷺ أن هناك فرقاً بين التفاوض على المبادئ، وهي منطلقات الإنسان وقيمه العليا ومناراته المثلى وموروثاته المقدسة، وبين الأدوات والوسائل التي تحكمها المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتتأثرها وتؤثر فيها، وهي عوامل تغير وتحول عناصر القوى الفاعلة والمؤثرة في تحقيق المصلحة العامة. فقبل ذلك بعدة سنوات عديدة، حاولت قريش مفاوضة النبي الأكرم ﷺ على الوصول إلى اتفاقية صلح بينهم في العهد المكي، تكمن بنودها واشتراطاتها في إسقاط للقيم المقدسة والمبادئ والمنطلقات التي نادى بها النبي وهي (أصل الدعوة وتوحيد الرب وحاكمية السماء في التشريع والحكم )، فقام النبي الأكرم ﷺ بالاعتراض عليها ورفضها رفضاً قاطعاً وقال حينها: «واللهِ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يُظهره الله أو أهلك دونه». فكانت هذه الإجابة النبوية دلالة على رفض السمو النبوي على أي هدنة أو تفاوض يمس المعتقدات والمبادئ المقدسة التي بسقوطها تسقط دعوى الحاكمية للرب الأجل. ولكن نجد بعد سنوات، وحينما حصل التفاوض في هدنة الحديبية وجدنا أن النبي ﷺ قبل منهم ما أرادوا وتمت الموافقة من قبله وكان ظاهر شروطهم فيه إجحاف للجانب المدني الإسلامي مما أدى إلى غضب الصحابة من ذلك ومحاولتهم الحثيثة لإقناع النبي ﷺ بعدم قبول شروط الهدنة التي تحوي (حسب فهمهم) تنازلات عن القيم التي ينتهجونها والمبادئ التي كان يدعو إليها النبي ﷺ، ولكن الغريب أن النبي الأكرم وافق على شروطهم، وبعد ذلك رجع القرشيين إلى مكة وهم يرفعون راية النصر بتوقيع اتفاقية هدنة إيقاف الحرب المؤقت بين الفريقين، وما زال الصحابة يجدون في أنفسهم من هذه الاتفاقية التي عقدها النبي ﷺ. وعند ذلك أخبر النبي صحابته بألا يستعجلوا النتيجة وأن البنود التي تم التوقيع عليها لم يتم المساس بمبدأ (الدعوة والعقيدة والمسار العام الإسلامي)، وإنما كانت البنود تحوم وتدور حول (أدوات وعناصر) يمكن التفاوض عليها ولا يؤدي ذلك لانهيار منظومة الدعوة إنما الأمر له علاقة بتسليم الأسرى والتسميات وغيرها. فكأن النبي (والله أعلم بمراد نبيه) يُعلّم الصحابة والأمة من بعدهم أن هناك فرقاً بين المبادئ والقيم المثلى التي لا يجب أن تشوبها شائبة وألا تكون رهن الأعداء في الاتفاقيات، وبين الأدوات والأساليب التي يمكن أن تعاد إدارتها واستثمارها بما يتوافق مع المصلحة الآنية للدولة والدعوة والشعب. فلم يمر عام بعد تلك الهدنة حتى فتحت مكة على أيدي المسلمين وكانت في باطنها فتحا وانتصارا.