17 سبتمبر 2025

تسجيل

حتى لا تتآكل طبقتنا الوسطى

29 أكتوبر 2020

هل نفعل ما نريد، ونريد ما نفعل؟ تبادر هذا السؤال إلى ذهني وأنا أشاهد أحد من يسمون بـ "مشاهير التواصل الاجتماعي"، وهو يستعرض مقتنياته من متعلقات شخصية تفوق بلا شك احتياجاته، ثم سألت نفسي: هل تصرفاتنا وسلوكياتنا تعبر عن رغباتنا الحرة دون أي دافع يدفعنا للقيام بها ودون أي ضغط يمارس علينا؟. ومن جهة اخرى، هل ما نعايشه من سلوكيات استهلاكية وسعي لاقتناء الأشياء بما يفوق حاجتنا، يحقق لنا فعلا ما نريد وما نحن بحاجة إليه؟. إن ما يدعو للقلق حقاً هو ذلك الكم الكبير من السخافات التي نتعرض لها يومياً عبر مختلف الوسائل، والنشاط التسويقي المحموم الذي يمارسه علينا مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي، ورغم أنني شخصيا أتجنب متابعتهم أو نشر سلوكياتهم، أو حتى الاطلاع على يومياتهم، لإدراكي التام مدى خطورة ما يتم ترويجه من سلوكيات سلبية ولإغراقنا في التفاهات، والصد عن كل ما يمكن أن يقدم فائدة، إلا أن التقنيات الحديثة نجحت بكل أسف في فرضهم علينا، وإقحامهم في حياتنا عنوة، حتى أصبح ذلك الأمر واقعا معيشا. تمثل الطبقة الوسطى في المجتمع أساس النمو الاقتصادي و صمام الأمان له، ويدلل اتساع تلك الطبقة وانتعاشها على تعافي المجتمع واستقراره، وبطبيعة الحال فإن الطبقة الوسطى تمثل الهدف الرئيس لكافة أشكال التسويق والتجارة، إلى جانب كونها هدفا لأغلب أشكال التسويق الوهمي والنصب الممنهج باعتبارها أكبر طبقات المجتمع وأكثرها استهلاكا. يترتب على ذلك أن معظم الإعلانات للمنتجات والخدمات موجهة في الأساس وبشكل مكثف لأفراد تلك الطبقة، ليس عبر إطلاق الوعود بتلبية احتياجاتها وحسب، بل بخلق احتياجات وهمية واستحداث سلوكيات استهلاكية جديدة وإحاطتها من كل الجوانب، وفي كل الأوقات بالإعلانات سواء الظاهر منها أو المبطن، والذي أخذ ينتشر في الآونة الأخيرة انتشار النار في الهشيم عبر بعض المشاهير، الذين هم في واقع الأمر مسوقون ومندوبو مبيعات لدى كبريات الشركات المنتجة. وفي الوقت الذي تسعى فيه الدول عبر سياساتها الاقتصادية إلى الحفاظ على الطبقة الوسطى من التآكل، والعمل على توسيع قاعدتها وحمايتها من الآثار المترتبة على التضخم وتباطؤ النمو وارتفاع أسعار الخدمات مقابل الدخل، وغيرها من أسباب تؤدي إلى انحسار الطبقة الوسطى في كافة المجتمعات حول العالم، نجد أن تلك الأسباب الموضوعية لا تشكل مصدراً للقلق في دول الخليج، وليست على الأغلب أسبابا تهدد الطبقة الوسطى، بل ان ما يهدد وجود تلك الطبقة هو الاستهلاك المبذر، والسعي الحثيث لاقتناء صنوف المنتجات التي لا تمثل حاجة أساسية، ما يجعلها تعيش على هامش الكفاف، عبر خلق احتياجات وهمية ووعود سرابية، بإقناع أفراد تلك الطبقة أن السلع والخدمات المختلفة ستحقق لها ما تصبو إليه من سعادة واستقرار. يشير مصطلح التفكير خارج الصندوق إلى النظر للواقع من حولنا، وتقييمه بنظرة تتجاوز أطر التفكير النمطية المحددة سلفا، والتي تحجب النظر للواقع بنظرة موضوعية، وعند تطبيق تلك الآلية في التفكير لتقييم مواقف الآخرين قد نكتشف أنهم مخدوعون، أو أنهم يخضعون لنوع من التضليل، ولكن.. هل نستطيع النظر لواقعنا نحن من خارج صندوقنا، وإدراك ما يمارس علينا عبر آليات التسويق والترويج والإعلان، من تضليل ووضعنا في دوامة الاستهلاك، والسعي لامتلاك الأشياء، وذلك بتطبيق أحدث نظريات التسويق؟!. إن تلك الآليات، التي قد لا ندركها، تتم ممارستها علينا من قبل شركات متعددة الجنسيات، وتستنبط استراتيجياتها الإعلانية من أحدث نظريات علم النفس، كما تقف وراءها رؤوس أموال ومنظمات ومراكز أبحاث ضخمة، وقد نجحت تلك المساعي، ليس في حثّنا على الاستهلاك فقط، بل إنها جعلت منا ودون إدراك مسوقين ومروجين لسلع ومنتجات الشركات الكبرى ومندوبين عنها دون مقابل. ولك أن تجرب اقتناء هاتف قديم أو سيارة متواضعة وسترى بنفسك كيف أن أغلب المحيطين بك يمارسون عليك الضغط الاجتماعي المباشر وغير المباشر، ليؤثروا في قراراتك وإقناعك باتباع الركب والسير في فلكه، دون أن تخالف توقعات المجتمع. إن الاستهلاك التفاخري الذي يعد نمطا استهلاكيا يتم من خلاله التعبير عن الوضع الاقتصادي للشخص، ويعكس ثراءه من خلال إثبات قدرته على شراء واقتناء السلع الثمينة والنادرة غير الضرورية، لم يعد محصورا على الأغنياء فقط، بل أصبح بكل أسف مستشريا بين أفراد الطبقة الوسطى الذين يقتنون ما لا يملكون قيمته، ولا يعكس واقعهم الاقتصادي الحقيقي، عبر خطط الائتمان وتمويل الشراء بالتقسيط وإضافة الأرباح، لتستمر العجلة في الدوران. إن الاقتصاد القائم والاستهلاك المرتبط به، غير مبني - في أغلبه - على اقتصاد القيمة المضافة، بل على التلاعب بالغرائز البشرية، وتعزيز حب التملك، والإيهام بندرة المنتجات والخدمات، وخلق احتياجات لا تُلبّى إلا عبر الشراء والتملك، ما يضعنا في دوامة لا تتوقف من الشراء والتخزين والتسوق والامتلاك. فمن الطعام الذي سيحقق لنا السعادة إلى مشكلة السمنة التي ستترتب لا محالة على عاداتنا الغذائية الخاطئة، ثم توفير الملابس ذات القياسات الكبيرة لتلبي احتياجاتنا وتكسو اجسامنا الضخمة، إلى الأمراض المرتبطة بالسمنة، ثم شركات الأدوية التي وجدت لنا حلا في علاجات الضغط والسكري والكوليسترول، ثم السعي للتخلص من السمنة والقضاء عليها عبر الاشتراك الشهري في وجبات "صحية" منخفضة السعرات، إلى عيادات التجميل التي ستحقق لنا الحلم الذي طالما راودنا وستختصر علينا الطريق إلى الرشاقة الموعودة، ثم الأندية الصحية والاشتراكات السنوية التي ستسهم في حصولنا على الجسم الذي طالما حلمنا به، ثم الحقن التي ستزيل التجاعيد وآثار الزمن الغابر من على وجوهنا بعد أن تنجح في تسطيح تجاعيد جباهنا. وبعد أن نتعب من السعي خلف السعادة التي لم ولن نجدها لا بد لنا من الراحة والسفر والاستجمام من وعثاء الحياة وقراءة كتاب "كيف تصبح غنيا في عشرة أيام". نحن بلا شك نسعى خلف السعادة، فهل حقق لنا الاستهلاك والشراء السعادة المنشودة؟ أم إن نزعتنا الاستهلاكية، وعلى العكس مما نطمح إليه، حققت السعادة لأصحاب الأموال وملاك الشركات، أما نحن فأكلنا الطعم، الذي لم يوضع في السنارة من أجل إسعاد السمكة. علينا أن ندرك أن صعود أصحاب رؤوس الأموال ونجاحهم يتم بالتسلق على أكتافنا، عبر تعزيز نزعة الاستهلاك والتسوق، ثم ينظّرون في المؤتمرات والملتقيات حول النجاح والمثابرة، ويخبروننا عن إنجازاتهم، وكيف وضعوا الجزرة أمامنا لنتبعها ونحقق السعادة والرضا، فلا نحن رضينا ولا سعدنا بما حصلنا عليه من مقتنيات. وعلى كل حال فإنه لا يمكننا كبت غرائز الإنسان أو إنكارها، بل علينا الانتباه لها والتعامل معها، مع الإدراك أننا جميعا نرغب في امتلاك المنتجات ونعجب بها ويسعدنا اقتناؤها، ولكن لا بد من زيادة الوعي بما يجري حولنا من استغلال لغرائز الإنسان وتطويعها لجني الأرباح دون وضع أي اعتبار لذلك الإنسان المجبول فطرياً على حب التفوق، الأمر الذي يدفعه للسعي للتميز والتفرد ونيل الإعجاب والاحترام. تستغل الرأسمالية الشرسة تلك الغرائز الفطرية لدى الإنسان، وتجعله يسعى خلف التميز الموهوم، وأقنعته بأنه سيتميز ويصبح من النخبة بشراء المنتجات، واقتناء الماركات واتباع أحدث خطوط الموضات. لقد أفرغت الإنسان من محتواه، حتى أصبح يلهث خلف المتشابهات من الأرقام والنوادر من الساعات والأقلام التي لا يرى فيها الوقت، ولا يخط بها الحروف، واتجه إلى الإفراط في الاقتراض وتحمّل ما لا يطيق، لا لشيء إلا ليثبت التميز والتفرد وإثارة الإعجاب، لقد أصبح الجميع يشبه الجميع حتى بات المميزون في المجتمع هم أولئك الذين لم يسعوا للتميز!. لقد اصبحت علاقاتنا الإنسانية ومناسباتنا الدينية والاجتماعية والوطنية ومشاعرنا العاطفية جميعها مشاريع رأسمالية، فلا عيد إلا باستبدال القديم بالجديد، ولا عيد ميلاد – وهو مشروع رأسمالي عالمي بامتياز- إلا مع هدايا وعطايا وكعك وحلوى. وتتجلى خطورة هذا المنحى الاستهلاكي في أن المرء مع إدراكه لكل ما يدور حوله من أكاذيب، إلا ان الفشل الذريع سيكون مصيره أمام أول امتحان حقيقي يوضع فيه، فما إن يطلب منك ابنك هدية عيد ميلاده المجيد، او نجاحه السديد حتى يسقط في يديك، وتجد نفسك وقد وقعت في الشراك، فلا تملك مخرجا لنفسك تحت حجج كثيرة، أبرزها تجنيب ذلك الطفل البريء شعور الحرمان والظلم والقهر الذي سيعانيه إن لم يحصل على ما يصبو إليه، وماذا سيقول عنه أقرانه وأترابه؟ نعم إنها الرأسمالية التي سيطرت على مشاعرنا وأحاسيسنا وعلاقاتنا، وأصبح كل شيء يقاس بمبدأ العرض والطلب. الطريف في الموضوع أننا لم نكتف بكل ذلك، ولم نترك النخب وأصحاب الملايين يهنؤون بما حققوه، فولجنا عوالمهم، وتطفلنا على أسلوب حياتهم، واشرأبّت أعناقنا إلى المنتجات التي تستهدفهم وتلبي نزعة البذخ لديهم، فلم نترك منتجا نخبويا غالي السعر إلا وسعينا لامتلاكه، ودفعنا كل ما نملك لنركب السيارات الفاخرة ونسافر عبر الدرجات الأولى، ونتناول وجباتنا في المطاعم الفارهة، لنثبت اننا اهل وكفء لها. وقد يصل الأمر إلى أن نقترض لنزاحم أرباب الأموال في المصايف وأجنحة الفنادق الباهظة، ثم بعد كل ذلك، وعندما نشاهد أحد الأغنياء من أصحاب الشركات الكبرى وهو يرتدي المتواضع من الملابس، ويركب البسيط من السيارات ويتخذ من شقة صغيرة مسكناً له يؤويه، نكيل له المديح على تواضعه ونثني على دماثة خلقه!! ألم ندرك بعد أن واضع الطعم لا يأكله!. في دراسة مهمة أجراها باحثون كويتيون تناولت أنماط الاستهلاك في دول الخليج وحملت عنوان "الاستهلاك الترفي: مجتمعات الخليج العربي نموذجاً" حذرت هذه الدراسة من تحوّل الفرد الخليجي إلى مدمن على القروض، بهدف مواكبة نمط الاستهلاك المترف، مبينة أن القروض الترفيهية والاستهلاكية تنال النصيب الأكبر من حجم مديونيات الأفراد في دول المجلس، حيث كشفت أن حجم القروض الاستهلاكية بلغ 394 مليار دولار في السنوات الأخيرة، فيما كشفت تلك الدراسة أن الإعلانات في دول الخليج تستحوذ على نسبة 75 % من إجمال سوق الإعلانات العربي. وأظهرت إحصائية أجرتها "يورومونيتور انترناشيونال" أن دول الخليج هي الأكثر استهلاكا للعطور عالمياً، حيث تستحوذ على 35 % من مبيعات العطور في منطقة الشرق الأوسط، التي يقدر حجمها بنحو 3.5 مليار دولار في العام، حيث ينفق الخليجي على العطور 67 دولاراً شهرياَ. من جانب آخر توقع تقرير أصدرته شركة "ألبن كابيتال" الاستثمارية أن يرتفع استهلاك الغذاء في الخليج بنسبة 4,2 % سنوياً خلال السنوات المقبلة، وقال التقرير إن الاستهلاك سيزداد من 48.1 مليون طن متري في عام 2016 إلى 59.2 مليون طن متري في عام 2021. وبحسب بيانات منظمة الأمم المتحدة يصل عدد من يعانون من نقص الغذاء والجوع المستمر عالميا إلى 821 مليون شخص، في الوقت الذي يهدر فيه 30 % من الإنتاج العالمي من الأطعمة قبل الوصول لمائدة المستهلك، أي نحو 1.3 مليار طن سنويا، وبكل أسف تحتل دول الخليج المركز الأول بين الدول المهدرة للطعام. وفي الوقت الذي أدت فيه جودة الرعاية الصحية في دول الخليج إلى إطالة متوسط العمر للأفراد، فإن جودة الحياة لم تتوافق مع التطلعات بسبب العادات الغذائية ونمط الحياة الاستهلاكي السلبي، ففي عرض قدمته شركة (فيليبس) بالتعاون مع وحدة المعلومات في مجلة "إيكونوميست" على هامش معرض ومؤتمر الصحة العربي عام 2015، تبين أن معدلات السمنة المفرطة والإصابة بمرض السكري في دول الخليج تفوق متوسط الأرقام العالمية، وتوضح أن 42 % من النساء في الخليج يعانين السمنة، ويعاني 22 % من سكان المنطقة من السكري، في حين يبلغ المعدل العالمي للاصابة بالسكري 8 % فقط!. ومن المرجح أن تكون هذه الإحصائيات والأرقام التي تعود لفترات سابقة، شهدت ارتفاعا تدريجيا، الأمر الذي يلح علينا بسؤال أنفسنا، أي إنسان نريد أن نكون؟ وهل وجدنا ما وعدنا به مشاهير "السوشيال ميديا" حقاً؟ وهل حققنا السعادة المنشودة؟ أم إننا نسلك طريقا خاطئاً ولم نزدد باستمرارنا فيه إلا تعاسةً وتوترًا. إن القلق الذي نعيشه، والتوتر الذي يلازمنا، والخشية التي تتملكنا من أن نقصّر تجاه أنفسنا أو تجاه من نحب، ما هي إلا نتائج وآثار خلّفها اقتصاد السوق ومساعي الإعلان والترويج. ومن أخطر ما يمارس علينا اليوم هو التسويق وفق مبدأ الندرة، وهو ما يشير إلى حث الناس على شراء المنتجات عبر إيهامهم بندرتها ومحدودية إصداراتها وأنها على وشك النفاد، راقب حولك وستجد الكثير ممن مارسها عليك دون علمك. إن تلك الممارسات تضع الإنسان تحت ضغط وخوف وقلق خشية، ألا يتمكن من الحصول على ما يريد، الأمر الذي يدعوه إلى سرعة التصرف، وهو التصرف الذي لن يكون مدروسا أو منطقيا طبعا. وفي حين انه من المفترض أن يتم الإعلان عن المنتجات من خلال شرح مزاياها وخصائصها الموضوعية، بيد أن الحاصل - وبكل أسف - هو تسويق المنتجات والإعلان عنها عبر ربطها بالعواطف والأحاسيس والمشاعر، فأنت "تستحق" هذا المنتج لأنك "ناجح"، ولا بد أنك ستكون "سعيدا" بشرائك لهذه السيارة، أنت "الأجدر" بارتداء هذه الساعة، فاجئ من "تحب" بكذا وكذا. وهكذا يتم إغواؤك حتى يُستنفَد كل ما تملك فتقلّب كفيك على ما أنفقت، وحينها لن يهتم لشأنك أصحاب الملايين، ولن "تستحق" أي منتج لأنك لا تملك قيمته، ولن يشكل "نجاحك" أي أهمية لهم، نعم لقد نالت منك الرأسمالية المفترسة ونهشت لحمك وأردتك عظاماً.