11 سبتمبر 2025

تسجيل

أحمد منصور والجزيرة والحياد المهني

29 أغسطس 2012

يعتمد نجاح العمل الصحافي والإعلامي على عناصر عديدة، يأتي في مقدمتها عنصرا المصداقية والموضوعية، اللتان تضمنان إيصال المادة الخبرية بصيغة يمكن الوثوق بصحتها وتصديقها، باعتبار أن الحفاظ على مصداقية الصحافي لها أولوية قبل كسب الشعبية والرواج الإعلامي، ويرتبط هذان العنصران بسمة مميزة وذات أهمية قصوى في العمل الإعلامي، وهي الحياد وعدم التحيز، والتي تعتبر أحد أهم الصفات المطلوبة لأي صحافي في أي جزء من العالم، فالحياد وعدم الانحياز أمر أساس وبالغ الأهمية طالما كان الصحافي يسعى لكسب وتعزيز مصداقية وثقة الجمهور فيما يخص عمله وأداءه الإعلامي، حيث يجب على الصحافي أن يسعى جاهدا لتبيان حقيقة قيامه بتغطية الحدث الصحافي أو القصة الخبرية بصورة متوازنة وعادلة ونزيهة، لأن طبيعة عمله لها بالغ الأثر ليس فقط على الرأي العام فحسب، بل على تشكيل سياسات وتوجهات الدولة.ولهذا فإننا نجد أن كافة لوائح السلوك المهني والأخلاقي الدولية الخاصة بالصحافيين، والتي تتضمن الضواﺒط والتوجيهات السلوكية وتحدد قواعد الأسس والمعايير المنهجية للسلوك الأخلاقي المهني التي ينبغي أن يلتزم بها الصحافيون أدبيا وأخلاقيا في عملهم، تشدد على أهمية الموضوعية والحياد باعتبارهما جوهر السلوك الأخلاقي لمهنة الصحافة وأحد ركائزها الأساسية، بل إن هناك بعض المؤسسات الإعلامية، مثل صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية، تسلط الضوء على أهمية هذا الجانب للصحافيين حتى في مجال حياتهم الخاصة، حيث تشير إحدى مواد لائحة اﻟﺴﻟوك الأخلاقي واﻟﻤﻬﻨﻲ لصحيفة نيويورك تايمز أنه في حين أن المؤسسة تتفهم حقوق موظفيها في أن ينعموا بخصوصياتهم في حياتهم اليومية الخاصة باعتبارهم من ضمن عامة الناس، إلا أنه ينبغي عليهم أن يضعوا في الاعتبار أن السلوك والمواقف والأفعال التي تصدر عن الصحافيين في حياتهم الخاصة قد تؤدي ربما إلى تضارب المصالح الشخصية والمهنية، وبالتالي يمكن أن يكون لها انعكاسات على هدف المؤسسة الإعلامية الساعية إلى تقديم خدمة إعلامية أخلاقية ومحايدة، ولهذا قامت صحيفة نيويورك تايمز بوضع أحكام في لائحتها الخاصة بالسلوك الأخلاقي والمهني تضمن حفاظ الصحافيين على صفتي المصداقية والموضوعية حتى على مستوى حياتهم الخاصة.وتشير الفقرة 89 من لائحة السلوك الأخلاقي والمهني لصحيفة نيويورك تايمز إلى أنه: "لا يحق للصحافيين المشاركة في العمل السياسي، بينما ليس هناك حجر على موظفي الصحيفة فيما يخص التسجيل والتصويت في الانتخابات، وأنه يجب ألا يقوموا بأية أعمال قد تثير تساؤلات حول حيادهم المهني أو تشكك في عملهم الإخباري، وعلى وجه الخصوص، فإنه لا يجوز للصحافيين الانخراط في الحملات الدعائية للمرشحين، أو التظاهر لصالح المرشحين، أو دعم المرشحين، أو المساهمة في أي جهود تخص سن التشريعات، كما لا يجوز لهم ارتداء شعارات الحملات الانتخابية أو أن يقوموا بأنفسهم بعرض أي شعارات أخرى خاصة بالأحزاب السياسية".وبالمثل، قامت شبكة الجزيرة أيضا بالتركيز على أهمية الموضوعية والحياد، فوضعتها في البند الأول على رأس ميثاق الشرف المهني والأخلاقي الخاص بها، والذي يؤكد على " التمسك بالقيم الصحافية من صدق وجرأة وإنصاف وتوازن واستقلالية ومصداقية وتنوع، دون تغليب للاعتبارات التجارية أو السياسية على الاعتبارات المهنية"، كما تشير الفقرة الرابعة تحت المادة الثانية من لائحة السلوك المهني والأخلاقي لشبكة الجزيرة، بكل وضوح، إلى أنه "لا يجوز للعاملين في القناة المشاركة في تقديم أي نوع من أنواع الدعاية السياسية أو الحزبية"، فيما تؤكد المادة الثامنة من نفس اللائحة على أنه "لا حظر على الانتماءات الحزبية والفكرية، ولكن ينبغي التأكد من أن ذلك لا يؤثر على الأداء المهني الذي ينبغي المحافظة عليه من خلال التمسك بميثاق الشرف الصحافي للقناة، والالتزام بالضوابط والتوجيهات المدرجة في اللائحة".ورغم أن وسائل الإعلام قد تختلف في ضوابطها وأنظمتها، إلا أن خصائص الحياد والموضوعية تظل هي نفسها في جميع لوائح السلوك الأخلاقي ومواثيق الشرف الإعلامية على المستوى العالمي، ولعل هذا ما جعلنا نتفاجأ عندما قام مذيع قناة الجزيرة العربية المعروف أحمد منصور، بنشر سلسلة من المقالات خلال هذا الأسبوع والأسبوع الماضي في الزميلة (الوطن)، يحكي فيها تفاصيل دوره البارز والمؤثر في ثورة الربيع العربي في مصر (قصة البيان الأول للثورة المصرية).فلقد اعترف منصور في مقالاته بأنه كان من بين الأشخاص السبعة الذين صاغوا البيان الأول لثورة 25 يناير، والتي لعبت دورا رئيسا في الإطاحة بنظام حسني مبارك، ذلك البيان الذي تلاه المستشار محمود مكي نائب رئيس محكمة النقض وقتها ونائب الرئيس المصري الحالي. كما أقر أحمد منصور بإشرافه على العمل - من وراء الكواليس - منذ بداية اندلاع الثورة، من أجل الترويج لها عبر وسائل الإعلام، مؤكداً عقد عدة اجتماعات في منزله مع جماعات وأحزاب المعارضة المصرية المختلفة التي شاركت بقوة في الانتفاضة. كذلك أوضح منصور كيف دفعه شباب الثورة دفعا ليتحدث إلى الناس ويقود الهتافات من المنصة الرئيسة في ميدان التحرير باعتبار أن الناس بحاجة إلى رموز يحبونها تبعث فيهم الحماسة، وكيف أنه رضخ لمطالب الشباب وكشف عن رأسه ووجهه للمرة الأولى بعد أن ظل متخفيا لفترة، فتحدث إلى الناس وقاد الهتافات من المنصة الرئيسة، وذكر منصور في مقالاته أيضا أنهم خططوا لأن تتصدر أحداث الثورة المصرية الأخبار وتكون هي المحور الرئيس لجميع وكالات الأنباء وشبكات التلفزة الرئيسة في جميع أنحاء العالم، وأضاف أن مشاركته في الثورة تمت باعتباره مواطن مصري وليس كإعلامي في قناة الجزيرة. ورغم إعلان منصور بأنه قد شارك في الثورة المصرية بصفته مواطنا مصريا عاديا، تظل الحقيقة التي لا تقبل الجدل، أن أحمد منصور هو شخصية إعلامية معروفة في العالم العربي، مما يضيف بعدا آخر لمشاركته الفاعلة في الثورة المصرية وينال كثيرا من مصداقيته كصحافي.ويقدم المذيع المصري أحمد منصور برنامجا سياسيا أسبوعيا يعتبر من أشهر البرامج الحوارية في قناة الجزيرة، وهو برنامج "بلا حدود"، والذي يتناول كل المشاكل الدولية والعربية والإسلامية مع ضيف واحد في كل حلقة، وقد يؤدي كشف منصور عن تفاصيل دوره البارز في انتفاضة الربيع العربي في مصر إلى التأثير سلبا على اتجاه برنامجه، والذي يرى فيه بعض المشاهدين بصورة أو بأخرى شكلا من أشكال التحيز.نعم، الكل يعلم أن الصحافيين من بني البشر أيضا، وقد يقول البعض بأن لديهم الحق في أن يعيشوا حياتهم الخاصة بحرية وبكافة تفاصيل خصوصياتهم، لكن في الوقت نفسه يجب أن ندرك أيضا أن الصحافيين ليسوا مجرد أناس من العامة، فهم دائما محط أنظار الجمهور، وبالتالي فإن مسؤوليتهم الأخلاقية تجاه هذا الجمهور يجب أن تكون متوازنة وعادلة في كل ما يقومون به، فالأنشطة التي يشارك فيها الصحافيون، وتحديدا تلك التي لها ارتباطات سياسية، يمكن أن تؤثر على نظرة الجمهور ليس فقط للصحافي في شخصه، ولكن أيضا للوسيلة الإعلامية التي ينتمي لها، ولذلك نعتقد أن مشاركة أحمد منصور في نشاطه السياسي المحموم خلال أحداث الثورة المصرية، لم تنل فقط من حياديته كإعلامي، ولكنها أيضا نالت من مصداقية وحيادية شبكة الجزيرة أيضا.وهناك العديد من التساؤلات يمكن أن تثار من خلال مواقف أحمد منصور وما كتبه في مقالاته، فماذا كان يأمل أن يحقق عبر مشاركته في الحياة السياسية؟ وهل كان يتصرف وفقا لمصلحته الشخصية، أم لشيء في نفس منصور، لإيصال رسالة؟ وهل كان قلبه على الثورة وعينه على مكاسب محددة من حكومة جماعة الإخوان المسلمين في مصر، خاصة أن محمود مكي، الشخص الذي تلا على الناس البيان الأول للثورة المصرية، قد صار نائبا للرئيس في حكومة محمد مرسي؟ أم أنه كان يتصرف نيابة عن مصلحة مجموعة معينة؟ وفوق كل هذا وذاك، كيف ستؤثر مشاركة أحمد منصور السياسية على شفافية ومصداقية الجزيرة كشبكة قنوات تلفزيونية تنافس كبرى القنوات العالمية؟ولعل قضية مشاركة أحمد منصور البارزة في أحداث الثورة المصرية قد أعادت للأذهان قصة غسان بن جدو، المدير السابق لمكتب قناة الجزيرة في بيروت، مع اختلاف أن ابن جدو كان قد استقال من منصبه في قناة الجزيرة عندما تضاربت وتقاطعت معتقداته السياسية مع سياسات قناة الجزيرة، بينما لم يفعل أحمد منصور ذلك.وكثيرا ما تمت الإشادة بقناة الجزيرة باعتبارها أحد المؤثرات القوية التي دفعت بثورات الربيع العربي في المنطقة، منذ أن قامت الشبكة بتغطية الشرارة الأولى التي أشعلت حماسة الثوار في تونس، والتي أضاءت ومهدت الطريق للانتفاضات في مصر وليبيا واليمن وسوريا. ولكن وفي الآونة الأخيرة تم توجيه الكثير من الانتقادات لقناة الجزيرة بسبب تغطيتها لانتفاضات الربيع العربي من واقع محاباتها لبعض الأطراف على حساب أطراف أخرى، وباعترافات أحمد منصور الأخيرة، تكون الجزيرة قد صبت مزيدا من الزيت على الشكوك المتقدة أصلا لدى بعض الناس، في أن بعض الشخصيات في الجزيرة لديهم أجندة خاصة.فعلى قناة الجزيرة أن تقوم بفحص ودراسة الخلفيات السياسية والفكرية للأشخاص الذين يعملون لديها بتأن وروية، لأن تلك الصبغات الأيديولوجية والسياسية الخفية لبعض موظفيها وصحافييها، قد تلون أسلوبها في تغطيتها للأخبار والأحداث الجارية، مما يمكن أن يشكل ضررا بالغا بسمعة ومصداقية ومكانة الجزيرة، والنابعة من شعارها الشهير الذائع الصيت في كافة أنحاء العالم العربي، أنها "صوت من لا صوت له".